قالوا: ومن هذا الباب أيضا قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ)، ولم يأتِ بالشيء الذي جعل الجنّة مثلاً له، وهذا يتقضي فساد
الكلام وخلوّه من فائدة، واستعماله على غير ما يجب وذلك ينفي أن يكون
من عند الحليم العليم.
يقال لهم: ليس الأمر في ذلك على ما قدمتم لأن المثل قد يكون معناه
النسبة الذي هو مماثلةُ الشيء لغيره، لأنك تقول: هذا الشيء مثل هذا
وأمثاله، كما تقول هذا شبه الشيء، وشبيهُه وشبهُه، وقد يكونُ بمعنى صفة
الشيء وصورته، وكذلك المثلُ والمثالُ يكونُ بمعنى الصفةِ والصورة
والخلقة، يدلُّ على ذلك قولهم للمرأة الجميلة الرقيقة الرائعةِ كأنها تمثال
ومثال أي كأنّها صورة، وكما يقال كأنها دمية، يعني الصورة، وهذه المرأة
مثل أي صورة، ومنه قولهم مثلت له كذى أي صورته، وأَرني مثال الدار
ومثال زيد أي: صورة ذلك، وقولهم: مثّل له الحظ أي صوّره له ما يَقتفي
فيه أثرَ الممثل، وهذا أظهرُ وأشهرُ من أن يُحتاج إلى إكثار وإذا كان ذلك
كذلك حُملَ قوله تعالى: (مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ) إلى آخر ما نَعتَها به على أنه أراد أن صورتَها وصفتَها أنّ فيها كذى وكذى.
ومن هذا أيضا قوله: (مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ)، إلى آخر ما وصفهم وصوّرهم، لأنه لم يَضرب لهم مثلاَ
في أول الكلام، فيرد بمثلهم عليهم، ورُويَ أنّ علياً عليه السلام كان يقرأُ:
"مثالُ الجنّة التي وُعدَ المتقون "، و"أمثالُ الجنهّ "، وهذا بمثابة مثلُ الجنّة.
فأمّا قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ).
فإنه إنّما لم يأت بالمثل، لأنّ في الكلام معناه، وما يدلّ عليه وهو قوله: (إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ)