أحدهما: أن الموتةَ الأولى لا تَصحُّ أن تعادَ فيذوقَها أحد، والآخر: أن
أهلَ الجنةِ لا يذوقونَ الموتَ أبدا، لا الموتةَ الأولى ولا غيرها.
قالوا فهذا يدلُّ على أن هذا الاستثنى ليس من كلامِ الله، أو هو من
كلامهِ غيرَ أنه وارد في غيرِ هذا الموضع، أو على غيرِ هذا الوجه، أو كان
معهُ كلام من حكاية عن مبطل، أو قولٍ لقائل، أو مقدم أو مؤخرٍ يُخرجُهُ عن الفسادِ والاستحالة.
فيقالُ لهم: لا يجبُ شيء ممّا قلتُم، لأجلِ أن إلاّ ها هنا بمعنى سوى.
وسوى هو بمعنى غير، فكأنه قال تعالى "لا يذقونَ الموتَ غير الموتِ الذي
كانوا ذاقُوه في الدنيا، وقولُه فيها ليسَ معناهُ أنّهم يذوقون في غيرها الموت.
ولكن لما ذكرَ الجنةَ ووَصفَها، بأنّها دارُ مُقامِهم وقرارِهم وأنّه لا دارَ لهم
سواها، قال: لا يذوقونَ فيها الموت، ومثلُ هذا قولُه: (وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ)، يعني سوى ما قد
سلفَ في الجاهلية، وقد يقولُ القائل: ما ينالُك في هذا الأمرِ ضرر ولا حزن
إلا ما نالكَ وسوى ما نالك، لا يريد بذلك أنّك يَنالكُ ما قد نالكَ وانقضَى
ومضَى، وإنما يعني بذلك أنّه لا ينالُك شيء غيرُ الذي قد نالكَ من قبلُ وهذا
أبينُ من أن يحتاج إلى إكثار.
وأما قولهم: إن أهلَ الجنةِ لو جازَ أن يموتُوا لم يصحَّ أن يذوقُوا الموتةَ
الأولى التي كانت في الدنيا، لأنّها لا تصحُّ أن تُخلق وتُعادَ مرةً أخرى، فإنّه
باطل، لأنّ الموتَ المُنقضي وجميعَ الأعراضِ الفانيةِ يَصحُّ أن تُخلقَ وتعادُ
بعد فنائِها، وأن يُقدَّمَ خلقُها ويُؤخَرَ أيضاً، وإن استحالَ بقاؤُها واستمرارُ
الوجودِ بها وقتينِ فصاعدا، وقد بيّنا ذلك ودللَّنا على صحته