واعلموا - رحمكم الله - أن دعوة الرسول لا تكونُ هدايةً لأحدٍ ولا
توصَفُ بذلك حتى يقارِنها قبولُ المدعو وانتفاعُهُ بها، ومتى عريَتْ من ذلك
لم تكن هدايةً له، فلذلك لا يجوزُ أن يقال إن الرسولَ قد هدى أبا جهلٍ وأبا
لهب وسائرَ من كفرَ به من قريش، ولم ينتفع بدعوته لأنه إذا لم ينتفع
المكلف بالدعوة لم تكن من أسبابِ هدايته، وصارت ضرراً عليه ووبالاً
وطريقا إلى عقابه، لأنه لو لم تكن الدعوةُ لم يستوجب العقاب، فهي إذن
ضرر مع عدم القبولِ والانتفاع، قال سبحانَه وتعالى: (الم (١) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (٢).
وقال: (وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ)، وقال: (وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى).
فبيَّن بذلك أجمع وأمثاله من الأخبار أن الدعوةَ هدايةٌ لمن قبلها وانتفعَ بها دون
من ردها واستضرَّ بورودِها، فبانَ بهذه الجملةِ أنه لا منافاةَ بينَ إضافةِ اللهِ
سبحانَه الهدايةَ إليه، وبينَ إضافةِ الهدايةِ إلى رسُله وملائكته والمؤمنين إذا
كان من أضافه إلى نفسِه من ذلك غير ما أضافَه إلى خلقه.
على أن الهدايةَ التي أضافها إليهم إنما هي الدعوةُ والتزيينُ والإرشادُ
والتنبيهُ والترغيبُ والتحذيرُ، وعلى ذلك يدلُّ قولُه: (وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ)، وقوله: (وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ).
وكل هذا ممّا قد هدى الله سبحانَه المؤمنينَ به على وجهين:
أحدهما: أن نفس دعوةَ الرسلِ وترغيبهم وترهيبَهم وإرشادهم من فعلِ
اللهِ تعالى وخلقه وترتيبِه وتدبيرِه، فهو أيضا هادٍ بذلك للمنتفعِ بالدعوة حسبَ هدايةِ المكتسبِ له من الرُّسل، ولا يجوزُ أن يكونَ الباري الهادي بهذه
الهداية المكتسبِ لها دون خالقها الذي صارت نفسا حادثةً موجودةً به دون
المكتسبِ لها، فوجبَ لذلك أن يكون لا تناقضَ بينَ إضافةِ الهدايةِ الواحدةِ