وكيفَ لا يجوز على اللهِ ما قلناه وهو تعالى يقول: (وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (١٦٦).
وليس يجوز أن تكون هزيمةُ من انهزم وانحرافه بأمر اللهِ وإيجابه، وإنّما أرادَ بذكر إذنه قضاءَه وقدرَه وما قذفَه في قلوبهم، وقد قال تعالى: (فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٣) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ).
فأخبَر أنّه - جعلَ قلوبَهم قاسيةً وأنّه أغرى بينهم العداوةَ والبغضاءَ إلى يوم القيامة، وليس هذا من الحكمِ والتسميةِ بسبيل، ولأنّ ذلك لو كان كذلك لكان النبي - ﷺ - والمؤمنين وكل منتمٍ لهم، وحاكمٍ عليهم يجعلُه إيمانُهم قد أغرى العداوة بيتهم وجعل قلوبَهم قاسية.
وهو ما لا يقولُه أحد.
وقال سبحانَه: (وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ)، فأخبرَ بتغطيةِ قلوبِهم وليس ذلك من التسمية بسبيل.
وقال: (وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (٨٤) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (٨٥) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (٨٦) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (٨٧) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ).
ولو كان الهدى منه لا يكون إلا بمعنى الدعوة والبيان لم يكن لهذا الامتنان عليهم معنى، ولكان قد هدى بهذا الهدى جميعَ المكلًفين، ولم يكن لقوله: (يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ) معنى، وكل هذا يبطلُ ما قالوه.
وقال تعالى في نقيض صفةِ هؤلاء الأنبياء: (قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (١٠٩) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (١١٠).