وأخرجَه مخرجَ الذمِّ الذي عيرهم عليه وأكذبَهم فيه، بقوله لنبيه عليه السلام: (قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ) ثم قال (فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (٧٨) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ)، على وجهِ التعييرِ لهم بهذا القول اقتصاراً على شاهد الحالِ ومفهومِ ذمهم وتعييرهم بهذا القول في أول الخطاب، فكأنّه قالَ كل من عند الله فما لهؤلاء القومِ لا يكادونَ يفقهونَ حديثاً، يقولون ما أصابك من حسنةٍ فمن اللهِ وما أصابك من سيئةٍ فمن نفسك، فحذفَ يقولون لأجل دلالةِ الخطابِ ومخرجَ القصدِ والبينةِ والكلام، ويدُلُّ على أنّ هذا هو التأويل أمران:
أحدهما: إجماعُ الأمة على أنّ اللهَ ذمَ قائلَ هذا في النبي - ﷺ - فلا يجوز أن يذمَّهم بقوله ويُصدقهم فيه ويقولُ مثلَ قولهم ولا جوابَ عن هذا.
والوجهُ الآخرُ: أن اللهَ تعالى قال: (وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ) فهذا يدل على أن الذي يصيبَهم من قبل غيرهم، وأنه ليسَ من اكتسابهم، لأن أهلَ اللغةِ لا يستجيزونَ أن يقول القائلُ منهم: أصابتني سيئة إذا اكتسبت معصية، وإنما يقولون أصبتُ سيئةً أي فعلتها، وكذلك إذا فعلَ الحسنة لا يقول: أصابتني حسنة، وإنما يقول أصبت حسنة، والمصابُ عندهم بالحسنةِ والسيئةِ هو الموجود ذلك به، من فعلِ غيره من نعمةٍ هي حسنة أو بليةٍ وأذِيَّةٍ ونقمة، هي من فعل غيره، فأما استعمال أصابني ذلك في فعل الإنسان نفسه، فذلك محال ممتنع، فبطلَ
بذلك ما قالوه.
فأمَّا القدري فإنّه لا يقول إنَّ الحسنةَ التي هي الطاعةُ وضد السيئةِ من
الله، لأنه لا يقول أنّ اللهَ خلقَ الحسنةَ كما لا يقولُ أنه خلقَ السيئة.