ويمكنُ أيضا أن يكونَ أرادَ بقوله: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (٥٦).
أي إلا للأمر بعبادتي والتكليف لذلك، وقد كانوا مأمورين وعلى صفة ما
أرادَ منهم من كونهم مكلفين مأمورين بالطاعة والإيمان، ولم يردْ أنه خلقهم
لكي تقعَ العبادةُ منهم أبدا، وفي كل وقت، وإنما أرادَ أنهم يكونون مأمورين
بذلك في سائرِ الأوقات، أعني أوقاتَ السلامةِ من الجنون والآفات.
والأحوال المانعة الصادة عن التكليف، وإذا كان ذلك كذلك بطلَ ما قاله
الملحدة والقدرية.
فأمَّا تعلُّقهم بقوله تعالى: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)، فلا معارضةَ بينَه وبينَ إخبارِه بأنه أضل الكافرينَ من ثمودَ
وغيرهم، لأنه يمكنُ أن يكون أرادَ بقوله: هديناهُم أرشدناهم وبينَّا لهم.
فاستحبوا العمى على الهدى، أي فلم ينقادوا لما بُيِّن لهم، وذلك لا ينفي أن
يكون قد خلق استحبابهم العمى على الهُدى وضلالهم عن الحق، لأن خلقه
لضلالهم لا ينافي بيانَه للحق لهم من طريق القول والخبر، وذكرِ الأدلة
ومراقيها فكأنه إنما أرادَ بالهداية ها هنا الإرشادَ بالقول والدلالة، ويكون إنما
سُمِّيَ البيانُ والإرشادُ بالقول هداية على معنى أننا بينا لهم بالقول بيانا لو
قبلوهُ وانتفعوا به، لكانَ هداية لهم، ولم يُرد بذلك أن القولَ هداية لهم، وإن
لم يقبلوه وينتفعوا به، وتقديرُ الكلامِ: وأما ثمودُ فهديناهم وآتيناهم من
القولِ والبينات ما لو قبلوه وصاروا إليه لكان هداية لهم، فلا منافاةَ إذاً بينَ
هذه الهدايةِ وبين إضلاله لهم بخلقِ الضلالِ وتضييقِ الصدور.
ويُحتملُ أن يكون أراد بقوله: (وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى)، الإخبارَ عن قومٍ خلق هدايتَهُم، وإيمانَهم ثم استحبوا العمى بعد
ذلك على الهدى، بالردة عن الإيمان، وذلك لا ينقضُ بعضُه بعضا، لأننا