من العلم بمعلوماته الغائبة من غير اضطرارٍ ولا استدلالٍ ولا خبر، فإذا
اطلعا على ذلك صارا يَعلمانه من جهة الوحي والتوقيف، وإذا كان ذلك
كذلك بطل ما قالوه.
ويحتمل أن يكون قولُه: (إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ)
قطعُ الكلام واستئنافا لذكر الرسول وقصتِه وتأييده وحفظِه وغير ذلك، وإذا
كان ذلك كذلك بطل ما قالوه.
فأما تعلق الملحدة بقوله: (وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ)، وذكر فيها من صحافِ الذهب والفضة والولدان وغير ذلك
من تعظيم شأن نعيمها وإيصال لذاتها وسرورها وأنه منقوص بوصفه لها
بأنّ فيها أنهاراً من ماءٍ غير آسن، وأنهاراً من لبن لم يتغيّر طعمُه، وأنهاراً من
خمر لذةٍ للشاربين، وقولهم أن اللبنَ والخمرَ ليس مما يُستلذ، واللبنُ خاصةً
لا يطلبُه ويشتهيه إلا جائعٌ مضرور، وأن الموضع الموصوف بأنّ فيه ماءً غير
آسنٍ لا يكون إلا جدباً قحطا غير مخصب فإنه باطل، لأن الخمرَ عند كل
أحدٍ مستلذ مشتهى، ولذلك حُرِّمت ومُنعت كسائر اللذات، وما تدعوه إليه النفوس والطباع، وذكرُه الأنهار إنّما هو إخبار عن كثرته، وأنَّه غير محصورٍ ولا مغيّرٍ مقترٍ محدود.
فأمّا ذكره اللبن فإنه صحيح، لأن العربَ تلذُّ اللبنَ وتشتهيه وتؤثره على
الماء وتختارُه عليه، وتجعلُه بمثابة الطعامِ والشراب، وليس بعد الماء شرابٌ
مفطور مخلوق من غير صنعةٍ ولا مزاج، وشربُ غيره من كل مائعٍ سواه.
فإنه لا يلذُّ بشربه إلا بصنعةٍ ومزاجٍ وتعديل، وكذلك ذِكْره العسل، لأنه مما
يلذُّ ويحب.