فأما قولهم: إنه قلَّ ما يؤكلُ ويشربُ عسلاً صرفا حتى يُمزج ويعالج.
فإنه كذب، لأن كثيراً من الناس يشتهيه صرفا، ولعله يُمزج لمزاجته
ممزوجا، واللهُ سبحانه إنما ذكرَ لهم الأشربة في الجنَّة من هذه الأجناس.
ليدلهم على أن هناك لبن وعسل وخمر وماء وأنواعُ ما تدعو إليه الأنفس، لا
لكي يدل بذلك على أنه مثلُ طعمِ الذي في الدنيا وصفتُه لا يفوقه ويزيدُ
عليه، وكذلك إنما وصف الماءُ بأنه في أنهارٍ وأنه غير آسنٍ ولا متغير، لأن
القومَ الذين خوطبوا بذلك إنما كانوا يشربون من العيون الضيقة والآبار النزة
وربما كان الماء لقلته آسناً متغيراً، فعرَّفهم أنه هناك غيرُ قليلٍ ولا محصور
مغيرٍ مقترٍ محدود، فبانَ بذلك بطلانُ ما قالوه، وكذلك قوله: (فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ)، (وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ)، وغير ذلك إنما أوردَه لكي يعرِّفهم أنواع ما في جنانه، ولم يذكره لكي يعرِّفهم أنه على
صفات ما في الجنَّة من الثمار واللحوم، على صفات ما تقع عليه هذه
الأسماء والنعوت في الدنيا من غير تحصيل مزية ولا زيادة حسن وطيبٍ
ولذة، وما لا يقدر جميع من على وجه الأرض على تركيب طعامٍ وشراب
يبلغ لذته، وإن صنعوه وعالَجوه بكل مزاج وتركيب، وإذا كان ذلك كذلك بطل ما توهموه.
فأمَّا تعلّقهم بقوله: (رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (٢٥) خِتَامُهُ مِسْكٌ)، وإنّ ذلك نقيضٌ لوصفه أنهارَ الخمر، لأن الختمَ يقتضي العزّة والقلة.
وقولهم: ولم خَتَمه الخشية الغارة واللصوص؟ ونحوَ ذلك من الجهالات.
فإنه حمقٌ وبلَه وتلاعب من الملحدة، لأن معنى (خِتَامُهُ مِسْكٌ) أي منقطعه
يوجدُ عنده طعمُ المسك من رائحته وهو من أجمل الشراب، ولو كان الختام
هو الختم والطابع لم يدل ذلك على القلة ولكان على التشريف لأولياء الله