فما في هذه الآيات، وما أشبهها، من إثبات العين أو الوجه، أو القُرب
والمكان، كلها محمولة على التورية، بأن يراد من الأعين: الرعاية والحفظ،
ومن الوجه: الذات التي لا يعلمها إلا هو، والقُرب: قُرب العلم لا قُرب المكان والملاصقة.
ومن العندية: العندية المعنوية لا عندية المكان.
وقد ذكر ابن أبى الإصبع ثلاثة مواضع أخرى كانت التورية فيها في معانٍ ليست وصفاً لله، وهى قوله تعالى حكاية عن إخوة يوسف عليه السلام: (إنكَ لفِى ضلاَلكَ القدَيِمِ)
لأن الضلال يُحمل على ضد الهدى ويحتمل الحب، فاستعملوه مريدين به ضد الهدى مورين به عن الحب ليعلم أن المراد ما أهملوا، لا استعملوا.
وقوله تعالى: (فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً)..
فالبدن يُطلق على الجسد، وعلى الدرع، وقد استَعمله بمعنى الجسم وأهمل
معنى الدرع ومراده ما أهمل، لأن نجاة فرعون - أي خروجه من البحر بعد
الغرق - بدرعه، أعجب من خروجه مجرداً،
ثم قال: " ومن التورية اللطيفة قوله تعالى بعد ذكر أهل الكتاب من اليهود
والنصارى: (وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ).
ولما كان الخطاب لموسى عليه السلام من جانب الطور الغربي توجهت اليهود
إليه وتوجهت النصارى إلى الشرق، وكانت قبلة الإسلام وسطاً بين القبلتين قال سبحانه وتعالى: (وكَذَلكَ جَعَلنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً) أي خياراً، وظاهر
اللفظ يوهم التوسط مع ما يَعضده من توسط قبْلة المسلمين، صدق على لفظ
" وسط " هنا أن يسمى تعالى به، لاحتماله المعنيين. ولما كان المراد - والله
أعلم - أحد المعنيين الذي هو الخيار دون الآخر، صلحت أن تكون من أمثلة هذا الباب.