قوله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلْيَهُودَ﴾ الآيات إلى قوله: ﴿وَٱلَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ﴾. [٨٢-٨٦].
نزلت في النجاشي وأصحابه.
قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة، يخاف على أصحابه من المشركين، فبعث جعفر بن أبي طالب، وابن مسعود، في رهط من أصحابه إلى النجاشي، وقال: "إنه ملك صالح، لا يَظلم ولا يُظلم عنده أحدٌ، فاخرجوا إليه حتى يجعل الله للمسلمين فرجاً". فلما وردوا عليه أكرمهم وقال لهم: تعرفون شيئاً مما أنزل عليكم؟ قالوا: نعم، قال: اقرأوا. فقرأوا وحوله القِسِّيسُون والرّهبان، فكلما قرأوا آية انحدرت دموعهم مما عرفوا من الحق، قال الله تعالى: ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ، وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى ٱلرَّسُولِ تَرَىۤ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ ٱلدَّمْعِ...﴾ الآية.
أخبرنا الحسن بن محمد الفارسي، قال: حدَّثنا محمد بن عبد الله بن حمدون بن الفضل، قال: حدَّثنا أحمد بن محمد بن الحسن، قال: حدَّثنا محمد بن يحيى، قال: حدَّثنا أبو صالح كاتب الليث، قال: حدَّثني الليث، قال: حدَّثني يونس [عن] ابن شهاب، عن سعيد بن المسيب وعُرْوَة بن الزبير وغيرهما، قال:
بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عَمْرَو بن أُميَّة الضَّمْري، وكتب معه كتاباً إلى النجاشي، فقدم على النجاشي، فقرأ كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم دعا جعفر بن أبي طالب والمهاجرين معه، فأرسل إلى الرهبان والقِسِّيسِينَ فجمعهم، ثم أمر جعفراً أن يقرأ عليهم القرآن، فقرأ سورة "مريم" عليها السلام، فآمنوا بالقرآن وفاضت أعينهم من الدمع، وهم الذين أنزل فيهم: ﴿وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ ٱلَّذِينَ قَالُوۤاْ إِنَّا نَصَارَىٰ﴾ إلى قوله: ﴿فَٱكْتُبْنَا مَعَ ٱلشَّاهِدِينَ﴾.
وقال آخرون: قدم جعفر بن أبي طالب من الحبشة هو وأصحابه، ومعهم سبعون رجلاً، بعثهم النجاشي وفداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عليهم ثياب الصوف، اثنان وستون من الحبشة، وثمانية من أهل الشام، وهم: بحيرا الراهب وأَبْرَهَة، وإدريس، وأشرف، وتمام، وقتيم، ودريد وأيمن. فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "يس" إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن، وآمنوا وقالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى. فأنزل الله تعالى فيهم هذه الآيات.
أخبرنا أحمد بن محمد العدل، حدَّثنا زاهر بن أحمد، قال: أخبرنا أبو القاسم البغوي، قال: حدَّثنا علي بن الجَعْد، قال: حدَّثنا شريك بن سالم، عن سعيد بن جُبَيْر في قوله تعالى: ﴿ذٰلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً﴾ قال: بعث النَّجَاشي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، من خيار أصحابه ثلاثين رجلاً، فقرأ عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة "يس" فبكوا، فنزلت هذه الآية.
قوله تعالى: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ﴾. [٨٧].
أخبرنا أبو عثمان بن أبي عمرو المؤذن، قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن حمدان قال: حدَّثنا الحسين بن نصر بن سفيان، قال: أخبرنا إسحاق بن منصور، قال: أخبرنا أبو عاصم، عن عثمان بن سعد، قال أخبرني عِكْرَمَة، عن ابن عباس:
أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم، قال: إني إذا أكلت هذا اللحم انتشرت إلى النساء، وإني حرَّمت عليَّ اللحمَ. فنزلت: ﴿يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ ٱللَّهُ لَكُمْ﴾ ونزلت: ﴿وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ٱللَّهُ حَلاَلاً طَيِّباً﴾ الآية.
وقال المفسرون: جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً، فذكّر الناس، ووصف القيامة، ولم يزدهم على التخويف، فرَق الناس وبكَوْا، فاجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مَظْعُون الجُمَحِي، وهم: أبو بكر الصديق، وعلي بن أبي طالب، وعبد الله بن مسعود، وعبد الله بن عمرو، وأبو ذَرٍ الغِفَاري، وسالم مولى أبي حُذَيْفَةَ، والمِقْداد بن الأَسْوَد، وسَلْمان الفارِسي، ومَعْقِل بن مُقرِّن. واتفقوا على أن يصوموا النهار، ويقوموا الليل، ولا يناموا على الفرش، ولا يأكلوا اللحم، ولا الوَدَك [وَلاَ يَقْرَبُوا النِّساءَ والطِّيب، ويَلْبِسُوا الْمُسوحَ ويَرْفُضُوا الدُّنْيَا وَيَسِيحُوا في الأَرْضِ] ويترهبوا ويَجُبُّوا المَذَاكِيرَ. فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم، فجمعهم، فقال: ألَمْ أُنبَّأْ أنكم اتفقتم على كذا وكذا؟ فقالوا: بلى يا رسول الله وما أردنا إلا الخير، فقال: [لهم]: إني لم أُوْمَرْ بذلك، إِنّ لأنفسكم عليكم حقاً، فصوموا وأفطروا، وقوموا وناموا، فإني أقوم وأنام، وأصوم وأفطر، وآكل اللحم والدَّسَم، ومَنْ رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني. ثم خرج إلى الناس وخَطَبَهُمْ فقال: ما بَالُ أَقوامٍ حرّموا النساءَ والطعام، والطِّيب والنوم، وشهواتِ الدنيا؟ أما إني لست آمركم أن تكونوا قِسِّيسِينَ ولا رهباناً، فإنه ليس في ديني ترْكُ اللحم والنساء، ولا اتخاذ الصوامع؛ وإن سِيَاحَةَ أمتي الصوم، ورَهْبانيتَهَا الجهادُ؛ واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً، وحُجُّوا واعَتَمِرُوا، وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصوموا رمضان؛ فإنما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شَدَّدوا على أنفسهم فشدّد الله عليهم، فأولئك بقاياهم في الدِّيارَاتِ والصَّوامِع؛ فأنزل الله تعالى هذه الآية، فقالوا: يا رسول الله، كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها؟ وكانوا حلفوا على ما عليه اتفقوا، فأنزل الله تعالى: ﴿لاَ يُؤَاخِذُكُمُ ٱللَّهُ بِٱللَّغْوِ فِيۤ أَيْمَانِكُمْ﴾ الآية.