مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ السَّلامِ، عَنْ إِسْحَاقَ الْحَنْظَلِيِّ، عَنِ الْمُعْتَمِرِ، عَنْ مَنْصُورٍ
قوله: ﴿وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ﴾ [النحل: ٩١] قال المفسرون: العهد الذي يجب الوفاء به هو الذي يحسن فعله، فإذا عاهد يجب الوفاء به.
قال ابن عباس في هذه الآية: والوعد من العهد.
﴿وَلا تَنْقُضُوا الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا﴾ [النحل: ٩١] بعد تغليظها، وتشديدها بالعزم والعقد على اليمين، بخلاف لغو اليمين، ﴿وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلا﴾ [النحل: ٩١] بالوفاء، وذلك أن من حلف بالله فكأنه أكفل الله بالوفاء بما حلف عليه، ﴿إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ﴾ [النحل: ٩١] قال ابن عباس: لا يخفى عليه شيء.
﴿وَلا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا﴾ [النحل: ٩٢] هي امرأة من قريش يقال لها: ريطة.
كانت حمقاء، تغزل الغزل هي وجواريها، ثم تأمرهن أن ينقضن ما غزلن، ﴿مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] أي: من بعد إبرام وفتل للغزل، أنكاثا جمع نكث، وهو الغزل من الصوف والشعر يبرم وينسج، فإذا أخلقت النسيجة قطعت ونكثت خيوطها، ثم غزلت ثانية.
ومعنى الآية لا تكونوا في نقض الأيمان بعد توكيدها كهذه المرأة غزلت غزلا وقوت مرته، ثم نقضته فجعلته أنكاثا، وقوله: ﴿تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ﴾ [النحل: ٩٢] الدخل والدغل: الغش والخيانة، قال الزجاج: غشا ودغلا.
﴿أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ﴾ [النحل: ٩٢] أي أكثر، يقال: ربا الشيء يربو إذا كثر.
قال مجاهد: كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون هؤلاء الذين هم أعز منهم، فنهوا عن ذلك.
وتلخيص التأويل: النهي عن أن يخلف على ما هو منطو على خلافه، وأن يغر غيره بيمينه، وقوله: ﴿إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ﴾ [النحل: ٩٢] أي بالأمر بالوفاء ﴿وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ﴾ [النحل: ٩٢] في الدنيا من شأن البعث والقرآن، وكل ما وقع الاختلاف فيه، قوله: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [النحل: ٩٣] قال ابن عباس: على ملة واحدة ودين واحد، ﴿وَلكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [النحل: ٩٣] وهذا صريح في تكذيب القدرية حيث أضاف الضلالة والهداية إلى نفسه وجعلهما لمن شاء من خلقه بالمشيئة الأزلية، ثم أخبر أنهم يسألون عن أعمالهم، فقال: ﴿وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ﴾ [النحل: ٩٣] فبان أن الأمر على ما أخبر الله به من قوله: ﴿لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ﴾ [الأنبياء: ٢٣].
ثم استأنف نهيا عن إيمان الخديعة والمكر، توكيدا للمنع عنها، وأوعد عليها، فقال: ﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾ [النحل: ٩٤] ﴿وَلا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا﴾ [النحل: ٩٤] قال ابن عباس: تزل عن الإيمان بعد المعرفة