الراحة والكسب والقرآن ممتزج من المحكم والمتشابه، فكذلك الدهر مركب من الليل والنهار، فالمحكم كالنهار، والمتشابه كالليل، فكما أن المقصود من التكليف لا يتم إلا بذكر المحكم والمتشابه فكذلك الزمان لا يحصل الانتفاع به إلا بالليل والنهار فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وهي القمر، لأنه يبدو في أول الأمر على صورة الهلال، ثم لا يزال يتزايد نوره حتى يصير بدرا كاملا، ثم يشرع في الانتقاص قليلا قليلا إلى أن يعود إلى المحاق وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ وهي الشمس مُبْصِرَةً أي مضيئة ذات أشعة تظهر بها الأشياء المظلمة فالإضاءة سبب لحصول الإبصار لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ أي لتطلبوا في الليل والنهار فضل ربكم من الرزق الحلال بالكسب ومن الثواب الجزيل بأداء الطاعات والاحتراز عن المنهيات وَلِتَعْلَمُوا بتعاقبهما عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ أي حساب ما دون السنين من الشهور والأيام والساعات لإقامة مصالحكم الدينية والدنيوية وَكُلَّ شَيْءٍ تفتقرون إليه في مصالح دينكم ودنياكم فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا (١٢) أي بيّناه في القرآن تبيينا بليغا لا شبهة فيه، فظهر كون القرآن يهدي للتي هي أقوم ظهورا بيّنا وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ أي عمله الذي قدرناه عليه من خير وشر فِي عُنُقِهِ وذكر العنق كناية عن شدة اللزوم، أي ألزمناه عمله كلزوم القلادة أو الفاء للصفة بحيث لا يفارقه عمله أبدا فإن كان خيرا كان زينة له كالطوق، وإن كان شرا كان شينا له كالغل على رقبته. وإنما يكنى العمل بالطير لأن العرب إذا أرادوا الإقدام على عمل اعتبروا أحوال الطير، فهل يطير متيامنا أو متياسرا أو صاعدا إلى الجو إلى غير ذلك فيستدلون بكل واحد منها على الخير والشر والسعادة والنحوسة فلما كثر ذلك منهم سمي نفس الخير والشر بالطائر تسمية للشيء باسم لازمه. وقيل: المراد بالطائر صحيفة الأعمال التي كتبتها الملائكة الحفظة، فإذا مات العبد طويت تلك الصحيفة وجعلت معه في قبره حتى تخرج له يوم القيامة.
وروي عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: يا رسول الله ما أول ما يلقى الميت إذا أدخل قبره قال: «يا ابن مسعود ما سألني عنه أحد إلا أنت فأول ما يناديه ملك اسمه رومان يجوس خلال المقابر فيقول: يا عبد الله اكتب عملك، فيقول: ليس معي دواة ولا قرطاس ولا قلم، فيقول:
كفنك قرطاسك، ومدادك ريقك وقلمك إصبعك فيقطع له قطعة من كفنه، ثم يشرع العبد يكتب وإن كان غير كاتب في الدنيا فيذكر حينئذ حسناته وسيئاته كيوم واحد، ثم يطوي الملك القطعة ويعلقها في عنقه». ثم قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: «وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ»
«١» أي عمله فيه وقيل: المراد بالطائر كتاب إجابته في القبر لمنكر ونكير وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً أي مكتوبا فيه عمله يَلْقاهُ أي يلقى الإنسان.