أنا فتناه بهذه الواقعة، لأنها جارية مجرى الامتحان فتنبه عليه السلام لذلك، فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ مما همّ به من الانتقام منهم. وقيل: إن دخولهم على داود كان فتنة له إلّا أنه عليه السلام استغفر لذلك الداخل العازم على قتله. وقيل: إن أوريا كان قد خطب المرأة، فأجابوه، ثم خطبها داود في حال غيبة أوريا في غزاته، فزوجت نفسها منه عليه
السلام لجلالته، وعلى هذا فمعنى «وعزني في الخطاب»، أي غلبني في خطبة المرأة.
وقيل: كان أهل زمان داود عليه السلام يسأل بعضهم بعضا أن يطلق امرأته حتى يتزوجها إذا أعجبته، وكان داود عليه السلام ما زاد على قوله لأوريا: انزل لي عن امرأتك، وذلك أنه وقع بصره على تلك المرأة من غير قصد، فأحبها ومال قلبه إليها، فسأل زوجها النزول عنها فاستحيا أن يرده عليه السلام، ففعل، فتزوجها، وهي أم سلمان، وكان ذلك جائزا في شريعته معتادا فيما بين الناس، غير مخل بالمروءة، وعلى هذا فمعنى «أكفلنيها» : انزل لي عن تلك النعجة الواحدة، وأعطينها، فعوتب داود بشيئين:
أحدهما: خطبته على خطبة أخيه المؤمن.
والثاني: إظهار الحرص على التزوج مع كثرة نسائه. وهذا وإن كان جائزا في الشريعة إلّا أنه لا يليق بجنابه عليه السلام فإن حسنات الأبرار سيئات المقربين. وقيل: إن ذنب داود الذي استغفر منه ليس بسبب أوريا، والمرأة وإنما هو بسبب قوله لأحد الخصمين لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه، فلما كان هذا الحكم مخالفا للصواب اشتغل داود بالاستغفار والتوبة، فثبت بهذه الوجوه نزاهة داود عليه السلام مما نسب إليه من الكبائر، وإنما يلزم في حقه ترك الأفضل والأولى والله أعلم. وكان داود استغفر ربه منه وَخَرَّ راكِعاً، أي سقط داود للسجود مصليا فكأنه أحرم بركعتي استغفار، وَأَنابَ (٢٤) أي أقبل إلى الله تعالى بالتوبة.
وروي أنه عليه الصلاة والسلام بقي ساجدا أربعين يوما وليلة لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لما لا بد منه، ولا يرقأ دمعه حتى نبت العشب منه إلى رأسه، ولا يشرب ماء إلّا ثلثاه دمع، وجهد نفسه راغبا إلى الله تعالى في العفو عنه حتى يكاد يهلك واشتغل بذلك عن الملك حتى وثب ابن له- يقال له: ايشا- على ملكه، ودعا إلى نفسه فاجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل، فلما غفر له حاربه فهزمه.
قال الحسن: وكان داود عليه السلام قبل الخطيئة يقوم نصف الليل، ويصوم نصف الدهر، فلما كان من خطيئته ما كان صام الدهر كله، وقام الليل كله.
وقال ثابت: كان داود إذا ذكر عقاب الله انخلعت أوصاله فلا يشدها إلّا الأسار، وإذا ذكر رحمة الله تراجعت. فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي ما استغفر منه، وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى، أي لقربة في الدرجات بعد المغفرة وَحُسْنَ مَآبٍ (٢٥) أي حسن مرجع في الجنة، يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ