فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (٥٥) في البحر، فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً أي متقدمين ليتعظ بهم كفار أمة محمد صلّى الله عليه وسلّم، وقرأ حمزة والكسائي بضم السين واللام والباقون بفتحهما، وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (٥٦) أي عظة لمن بقي بعدهم، وقصة عجيبة لهم، وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا أي لما جعل عيسى مشابها للأصنام في كونه معبودا إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ أي من ذلك المثل يَصِدُّونَ (٥٧) أي يضحكون وترتفع أصواتهم فرحا بما سمعوا من ابن الزبعري لظنهم أن محمدا صار مغلوبا بهذا الجدال.
روي أنه لما نزل قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ قال عبد الله بن الزبعري: هذا خاصة لنا ولآلهتنا، أو لجميع الأمم؟! فقال صلّى الله عليه وسلّم: «هو لكم ولآلهتكم ولجميع الأمم» فقال عبد الله: خصمتك ورب الكعبة، أليس النصارى يعبدون المسيح، واليهود عزيرا وبنو مليح الملائكة، فإذا كان هؤلاء في النار فقد رضينا أن نكون نحن والهتنا معهم؟! فسكت النبي صلّى الله عليه وسلّم، وفرح القوم وضجوا فنزلت هذه الآية.
وعبد الله هذا صحابي مشهور، وهذه القصة كانت قبل إسلامه، وقرأ نافع وابن عامر، والكسائي، وأبو بكر عن عاصم بضم الصاد وهو قراءة علي بن أبي طالب، والباقون بكسرها هو قراءة ابن عباس. وَقالُوا أَآلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي إن جاز لعيسى الدخول في النار مع النصارى يجوز لنا الدخول في النار مع آلهتنا وأنت تزعم أن آلهتنا ليست خيرا من عيسى، فإذا كان هو من حصب جهنم كان أمر آلهتنا أهون. وقيل: إن الكفار لما سمعوا أن النصارى يعبدون عيسى قالوا: نحن أهدى من النصارى لأنهم عبدوا آدميا ونحن نعبد الملائكة.
فقولهم: أآلهتنا خير أم هو تفضيل لآلهتهم على عيسى، وقيل: إن النبي صلّى الله عليه وسلّم لما حكى أن النصارى عبدوا المسيح، قالوا: إن محمدا يدعونا إلى عبادة نفسه وآباؤنا قالوا: يجب عبادة هذه الأصنام، فحينئذ عبادة الأصنام أولى لأن آباءنا متطابقون عليه. وإما محمد فإنه متهم في أمرنا بعبادته فمعنى أآلهتنا خير أم هو أي أ
عبادة الأصنام خير أم عبادة محمد والوقف على «أم» هو تام.
ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا أي ما ضربوا لك هذا المثل إلّا لأجل الغلبة في القول لا لطلب الفرق بين الحق والباطل، بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (٥٨) أي شداد الخصومة مجبولون على اللجاج، فإن قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يتناول عيسى والملائكة لأن كلمة «ما» لا تتناول العقلاء ألبتة ولأن النصوص الدالة على تعظيم عيسى والملائكة أخص من هذا القول. والخاص مقدم على العام.
إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَجَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ (٥٩) أي ما عيسى إلّا عبد كسائر العبيد شرفناه بالنبوة والإقدار على الخوارق، وليس هو باله وصيرناه عبرة عجيبة حيث خلقناه من غير أب ليعرفوا تمييزنا بالقدرة الباهرة، وَلَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (٦٠) أي ولو