أن يطمئن قلبي، وأصل إلى درجة عين اليقين.
فأجاب الله دعوته، كرامة له، ورحمة بالعباد، ﴿قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ﴾ ولم يبين أي الطيور هي، فالآية حاصلة بأي نوع منها، وهو المقصود، ﴿فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ﴾ أي: ضمهن، واذبحهن، ومزقهن.
﴿ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾
ففعل ذلك، وفرق أجزاءهن على الجبال، التي حوله، ودعاهن بأسمائهن، فأقبلن إليه، أي: سريعات، لأن السعي: السرعة، وليس المراد أنهن جئن على قوائمهن، وإنما جئن طائرات، على أكمل ما يكون من الحياة.
وخص الطيور بذلك، لأن إحياءهن أكمل وأوضح من غيرهن.
وأيضا أزال في هذا كل وهم، ربما يعرض للنفوس المبطلة، فجعلهن متعددات أربعة، ومزقهن جميعا، وجعلهن على رؤوس الجبال، ليكون ذلك ظاهرا علنا، يشاهد من قرب ومن بعد، وأنه نحاهن عنه كثيرا، لئلا يظن أن يكون عاملا حيلة من الحيل، وأيضا أمره أن يدعوهن فجئن مسرعات.
فصارت هذه الآية أكبر برهان على كمال عزة الله وحكمته.
وفيه تنبيه على أن البعث فيه يظهر للعباد كمال عزة الله وحكمته وعظمته وسعة سلطانه، وتمام عدله وفضله.
﴿٢٦١- ٢٦٢﴾ ﴿مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ * الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أ، َ، ،، م، ْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ هذا حث عظيم من الله لعباده في إنفاق أموالهم في سبيله، وهو طريقه الموصل إليه، فيدخل في هذا إنفاقه في ترقية العلوم النافعة، وفي الاستعداد للجهاد في سبيله، وفي تجهز المجاهدين وتجهيزهم، وفي جميع المشاريع الخيرية النافعة للمسلمين.
ويلي ذلك الإنفاق على المحتاجين، والفقراء والمساكين.
وقد يجتمع الأمران، فيكون في النفقة دفع الحاجات، والإعانة على الخير والطاعات، فهذه النفقات مضاعفة، هذه المضاعفة بسبعمائة إلى أضعاف أكثر من ذلك، ولهذا قال: ﴿وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ﴾ وذلك بحسب ما يقوم بقلب المنفق من الإيمان، والإخلاص التام، وفي ثمرات نفقته ونفعها، فإن بعض طرق الخيرات يترتب على الإنفاق فيها منافع متسلسلة، ومصالح متنوعة، فكان الجزاء من جنس العمل.
ثم أيضا ذكر ثوابا آخر للمنفقين أموالهم في سبيله، نفقة صادرة، مستوفية لشروطها، منتفية موانعها، فلا يتبعون المنفق عليه منا منهم عليه، وتعدادا للنعم، وأذية له، قولية أو فعلية.
فهؤلاء ﴿لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ﴾ بحسب ما يعلمه منهم، وبحسب نفقاتهم ونفعها، وبفضله الذي لا تناله، ولا تصل إليه صدقاتهم.
﴿وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ فنفى عنهم المكروه الماضي، بنفي الحزن، والمستقبل بنفي الخوف عليهم، فقد حصل لهم المحبوب، واندفع عنهم المكروه.
﴿٢٦٣﴾ ﴿قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ﴾ ذكر الله أربع مراتب للإحسان: المرتبة العليا: النفقة الصادرة عن نية صالحة، ولم يتبعها المنفق منا ولا أذى.
ثم يليها قول المعروف، وهو: الإحسان القولي بجميع وجوهه، الذي فيه سرور المسلم، والاعتذار من السائل إذا لم يوافق عنده شيئا، وغير ذلك من أقوال المعروف.
والثالثة: الإحسان بالعفو والمغفرة، عمن أساء إليك، بقول أو فعل.
وهذان أفضل من الرابعة، وخير منها وهي التي يتبعها المتصدق الأذى للمعطى، لأنه كدر إحسانه وفعل خيرا وشرا.
فالخير المحض- وإن كان مفضولا- خير من الخير الذي يخالطه شر، وإن كان فاضلا، وفي هذا التحذير العظيم لمن يؤذي من تصدق عليه، كما فعله أهل اللؤم والحمق والجهل.
﴿وَاللهُ﴾ تعالى ﴿غَنِيٌّ﴾ عن صدقاتهم، وعن جميع عباده.
﴿حَلِيمٌ﴾ مع كمال غناه، وسعة عطاياه، يحلم عن العاصين، ولا يعاجلهم بالعقوبة، بل يعافيهم ويرزقهم، ويدر عليهم خيره، وهم مبارزون له بالمعاصي.
﴿٢٦٤- ٢٦٦﴾ ثم نهى أشد النهي عن المن والأذى، وضرب لذلك مثلا، فقال: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ﴾ ضرب الله في هذه الآيات ثلاثة أمثلة: للمنفق ابتغاء وجهه، ولم يتبع نفقته منا ولا أذى، ولمن أتبعها منا وأذى، وللمرائي.
﴿٢٦٥﴾ فأما الأول، فإنه لما كانت نفقته مقبولة مضاعفة، لصدورها عن الإيمان والإخلاص التام ﴿ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ أي: ينفقون، وهم ثابتون على وجه السماحة والصدق، فمثل هذا العمل ﴿كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ﴾ وهو المكان المرتفع، لأنه يتبين للرياح والشمس، والماء فيها غزير.
فإن لم يصبها ذلك الوابل الغزير، حصل طل كاف، لطيب منبتها، وحسن أرضها، وحصول جميع الأسباب الموفرة لنموها وازدهارها وإثمارها. ولهذا ﴿آتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ﴾ أي: متضاعفا.
وهذه الجنة التي على هذا الوصف، هي أعلى ما يطلبه الناس، فهذا العمل الفاضل بأعلى المنازل.
﴿٢٦٦﴾ وأما من أنفق لله، ثم أتبع نفقته منا وأذى، أو عمل عملا، فأتى بمبطل لذلك العمل، فهذا مثله مثال صاحب هذه الجنة، لكن سلط عليها ﴿إِعْصَارٌ﴾ وهو الريح الشديدة ﴿فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ﴾ وله ذرية ضعفاء، وهو