من تتمة كلام الراسخين في العلم، وهو يتضمن الإقرار بالبعث والجزاء، واليقين التام، وأن الله لا بد أن يوقع ما وعد به، وذلك يستلزم موجبه ومقتضاه، من العمل والاستعداد لذلك اليوم، فإن الإيمان بالبعث والجزاء، أصل صلاح القلوب وأصل الرغبة في الخير، والرهبة من الشر، اللذين هما أساس الخيرات.
﴿١٠- ١١﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ * كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ لما ذكر يوم القيامة، ذكر أن جميع من كفر بالله، وكذب رسول الله، لا بد أن يدخلوا النار ويصلوها، وأن أموالهم وأولادهم لن تغني عنهم شيئا من عذاب الله، وأنه سيجري عليهم في الدنيا من الأخذات والعقوبات، ما جرى على فرعون وسائر الأمم المكذبة بآيات الله ﴿فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ﴾ وعجل لهم العقوبات الدنيوية، متصلة بالعقوبات الأخروية.
﴿وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ فإياكم أن تستهينوا بعقابه، فيهون عليكم الإقامة على الكفر والتكذيب.
﴿١٢- ١٣﴾ ﴿قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ * قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لأُولِي الأَبْصَارِ﴾ وهذا خبر وبشرى للمؤمنين، وتخويف للكافرين، أنهم لا بد أن يغلبوا في هذه الدنيا، وقد وقع كما أخبر الله، فغلبوا غلبة لم يكن لها مثيل ولا نظير.
وجعل الله تعالى ما وقع في "بدر" من آياته الدالة على صدق رسوله، وأنه على الحق، وأعداءه على الباطل، حيث التقت فئتان، فئة المؤمنين لا يبلغون إلا ثلاثمائة وبضعة عشر رجلا مع قلة عددهم، وفئة الكافرين، يناهزون الألف، مع استعدادهم التام في السلاح وغيره، فأيد الله المؤمنين بنصره، فهزموهم بإذن الله، ففي هذا عبرة لأهل البصائر.
فلولا أن هذا هو الحق الذي إذا قابل الباطل أزهقه واضمحل الباطل لكان- بحسب الأسباب الحسية- الأمر بالعكس.
﴿١٤- ١٥﴾ ﴿زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ * قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ أخبر تعالى في هاتين الآيتين، عن حالة الناس في إيثار الدنيا على الآخرة، وبين التفاوت العظيم، والفرق الجسيم بين الدارين، فأخبر أن الناس زينت لهم هذه الأمور، فرمقوها بالأبصار، واستحلوها بالقلوب، وعكفت على لذاتها النفوس، كل طائفة من الناس تميل إلى نوع من هذه الأنواع، قد جعلوها هي أكبر هممهم، ومبلغ علمهم، وهي- مع هذا- متاع قليل، منقض في مدة يسيرة.
فهذا ﴿مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ﴾
﴿١٥﴾ ثم أخبر عن ذلك بأن المتقين لله، القائمين بعبوديته، لهم خير من هذه اللذات، فلهم أصناف الخيرات، والنعيم المقيم، مما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ولهم رضوان الله الذي هو أكبر من كل شيء.
ولهم الأزواج المطهرة، من كل آفة ونقص، جميلات الأخلاق، كاملات الخلائق، لأن النفي يستلزم ضده، فتطهيرها من الآفات، مستلزم لوصفها بالكمالات.
﴿وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ فييسر كلا منهم لما خلق له، أما أهل السعادة، فييسرهم للعمل لهذه الدار الباقية، ويأخذون من هذه الحياة الدنيا، ما يعينهم على عبادة الله وطاعته، وأما أهل الشقاوة والإعراض، فيقيضهم لعمل أهل الشقاوة، ويرضون بالحياة الدنيا، ويطمئنون بها، ويتخذونها قرارا.
﴿١٦- ١٧﴾ ﴿الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ * الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ﴾ أي: هؤلاء الراسخون في العلم، أهل العلم والإيمان، يتوسلون إلى ربهم بإيمانهم، لمغفرة ذنوبهم، ووقايتهم عذاب النار، وهذا من الوسائل التي يحبها الله، أن يتوسل العبد إلى ربه، بما مَنَّ به عليه من الإيمان والأعمال الصالحة، إلى تكميل نعم الله عليه، بحصول الثواب الكامل، واندفاع العقاب.
﴿١٧﴾ ثم وصفهم بأجمل الصفات: بالصبر الذي هو حبس النفوس على ما يحبه الله، طلبا لمرضاته، يصبرون على طاعة الله، ويصبرون عن معاصيه، ويصبرون على أقداره المؤلمة.
وبالصدق بالأقوال والأحوال، وهو استواء الظاهر والباطن، وصدق العزيمة على سلوك الصراط المستقيم، وبالقنوت الذي هو دوام الطاعة، مع مصاحبة الخشوع والخضوع، وبالنفقات في سبيل الخيرات، وعلى الفقراء، وأهل الحاجات، وبالاستغفار، خصوصا وقت الأسحار، فإنهم مدوا الصلاة إلى وقت السحر، فجلسوا يستغفرون الله تعالى.
﴿١٨﴾ ﴿شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلا هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ هذه أجل الشهادات الصادرة من الملك العظيم، ومن الملائكة، وأهل العلم، على أجل مشهود عليه، وهو توحيد الله، وقيامه بالقسط، وذلك يتضمن الشهادة على جميع الشرع، وجميع أحكام الجزاء.
فإن الشرع والدين، أصله وقاعدته توحيد الله وإفراده بالعبودية، والاعتراف بانفراده بصفات العظمة والكبرياء، والمجد، والعز، والقدرة، والجلال، وبنعوت الجود، والبر والرحمة، والإحسان، والجمال، وبكماله المطلق الذي لا يحصي أحد من الخلق أن يحيطوا بشيء منه، أو يبلغوه، أو يصلوا إلى الثناء عليه، والعبادات الشرعية، والمعاملات وتوابعها، والأمر والنهي، كله عدل وقسط، لا ظلم فيه ولا جور، بوجه من الوجوه، بل هو في غاية الحكمة والإحكام، والجزاء على الأعمال الصالحة والسيئة، كله قسط وعدل.
﴿قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ﴾ فتوحيد الله، ودينه، وجزاؤه، قد ثبت


الصفحة التالية
Icon