ثبوتا لا ريب فيه، وهو أعظم الحقائق وأوضحها، وقد أقام الله على ذلك من البراهين، والأدلة ما لا يمكن إحصاؤه وعده.
وفي هذه الآية فضيلة العلم والعلماء؛ لأن الله خصهم بالذكر، من دون البشر، وقرن شهادتهم بشهادته، وشهادة ملائكته، وجعل شهادتهم من أكبر الأدلة والبراهين على توحيده ودينه وجزائه، وأنه يجب على المكلفين قبول هذه الشهادة العادلة الصادقة.
وفي ضمن ذلك: تعديلهم، وأن الخلق تبع لهم، وأنهم هم الأئمة المتبوعون، وفي هذا من الفضل والشرف، وعلو المكانة، ما لا يقادر قدره.
﴿١٩﴾ ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ يخبر تعالى ﴿إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ﴾ أي: الدين الذي لا دين لله سواه، ولا مقبول غيره، هو ﴿الإِسْلامُ﴾ وهو الانقياد لله وحده، ظاهرا وباطنا بما شرعه على ألسنة رسله، قال تعالى: ﴿وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ فمن دان بغير دين الإسلام، فهو لم يدن لله حقيقة، لأنه لم يسلك الطريق الذي شرعه على ألسنة رسله.
ثم أخبر تعالى، أن أهل الكتاب يعلمون ذلك، وإنما اختلفوا، فانحرفوا عنه عنادا وبغيا، وإلا فقد جاءهم العلم المقتضي لعدم الاختلاف الموجب للزوم الدين الحقيقي.
ثم لما جاءهم محمد -صلى الله عليه وسلم- عرفوه حق المعرفة، ولكن الحسد والبغي والكفر بآيات الله هي التي صدتهم عن اتباع الحق.
﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ﴾ أي: فلينتظر ذلك فإنه آت، وسيجزيهم الله بما كانوا يعملون.
﴿٢٠﴾ ﴿فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ﴾ لما بين أن الدين الحقيقي عنده الإسلام، وكان أهل الكتاب قد شافهوا النبي -صلى الله عليه وسلم- بالمجادلة، وقامت عليهم الحجة، فعاندوها، أمره الله تعالى عند ذلك، أن يقول ويعلن: أنه قد أسلم وجهه، أي: ظاهره وباطنه لله، وأن من اتبعه كذلك، قد وافقوه على هذا الإذعان الخالص.
وأن يقول للناس كلهم، من أهل الكتاب، والأميين، أي: الذين ليس لهم كتاب، من العرب وغيرهم: إن أسلمتم فأنتم على الطريق المستقيم، والهدى والحق، وإن توليتم فحسابكم على الله، وأنا ليس علي إلا البلاغ، وقد أبلغتكم وأقمت عليكم الحجة.
﴿٢١- ٢٢﴾ ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ﴾ أي الذين جمعوا بين هذه الشرور: الكفر بآيات الله، وتكذيب رسل الله، والجناية العظيمة على أعظم الخلق حقا على الخلق وهم الرسل، وأئمة الهدى، الذين يأمرون الناس بالقسط، الذي اتفقت عليه الأديان والعقول.
﴿٢٢﴾ فهؤلاء قد ﴿حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ﴾ واستحقوا العذاب الأليم، وليس لهم ناصر من عذاب الله، ولا منقذ من عقوبته.
﴿٢٣- ٢٥﴾ ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ﴾ أي: ألا تنظر وتعجب من هؤلاء ﴿الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ﴾ و ﴿يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ﴾ الذي يصدق ما أنزله على رسله.
﴿ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ﴾ عن اتباع الحق، فكأنه قيل: أي داع دعاهم إلى هذا الإعراض، وهم أحق بالاتباع، وأعرفهم بحقيقة ما جاء به محمد -صلى الله عليه وسلم-؟ فذكر لذلك سببين:
أمنهم، وشهادتهم الباطلة لأنفسهم بالنجاة، وأن النار لا تمسهم إلا أياما معدودة حددوها بحسب أهوائهم الفاسدة، كأن تدبير الملك راجع إليهم، حيث قالوا: ﴿لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى﴾ ومن المعلوم أن هذه أماني باطلة، شرعا وعقلا.
والسبب الثاني: أنهم لما كذبوا بآيات الله وافتروا عليه، زين لهم الشيطان سوء عملهم، واغتروا بذلك، وتراءى لهم أنه الحق، عقوبة لهم على إعراضهم عن الحق، فهؤلاء كيف يكون حالهم- إذا جمعهم الله يوم القيامة، ووفى العاملين ما عملوا، وجرى عدل الله في عباده، فهنالك لا تسأل عما يصلون إليه من العقاب، وما يفوتهم من الخير والثواب، وذلك بما كسبت أيديهم: ﴿وَمَا رَبُّكَ بِظَلامٍ لِلْعَبِيدِ﴾
﴿٢٦- ٢٧﴾ ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ يأمر تعالى نبيه -صلى الله عليه وسلم- أصلا- وغيره تبعا- أن يقول عن ربه، معلنا بتفرده بتصريف الأمور، وتدبير العالم العلوي والسفلي، واستحقاقه باختصاصه بالملك المطلق، والتصريف المحكم، وأنه يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.
فليس الأمر بأماني أهل الكتاب، ولا غيرهم، بل الأمر أمر الله، والتدبير له، فليس له معارض في تدبيره، ولا معاون في تقديره، وأنه كما أنه المتصرف بمداولة الأيام بين الناس، فهو المتصرف بنفس الزمان.
﴿٢٧﴾ ﴿تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ﴾ أي: يدخل هذا على هذا، ويحل هذا محل هذا، ويزيد في هذا، ما ينقص من هذا، ليقيم بذلك مصالح خلقه.
ويخرج الحي من الميت، كما يخرج الزروع والأشجار المتنوعة من بذورها، والمؤمن من الكافر، والميت من الحي.
كما يخرج الحبوب والنوى، والزروع والأشجار، والبيضة من الطائر، فهو الذي