يخرج المتضادات، بعضها من بعض، وقد انقادت له جميع العناصر (١)
وقوله ﴿بِيَدِكَ الْخَيْرُ﴾ أي: الخير كله منك، ولا يأتي بالحسنات والخيرات إلا الله، وأما الشر، فإنه لا يضاف إلى الله تعالى، لا وصفا، ولا اسما، ولا فعلا، ولكنه يدخل في مفعولاته، ويندرج في قضائه وقدره.
فالخير والشر، كله داخل في القضاء والقدر، فلا يقع في ملكه إلا ما شاءه، ولكن الشر لا يضاف إلى الله، فلا يقال: "بيدك الخير والشر"، بل يقال: "بيدك الخير" كما قاله الله، وقاله رسوله.
وأما استدراك بعض المفسرين حيث قال: "وكذلك الشر بيد الله" فإنه وهم محض، ملحظهم، حيث ظنوا أن تخصيص الخير بالذكر، ينافي قضاءه وقدره العام، وجوابه ما فصلنا.
وقوله: ﴿وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ وقد ذكر الله في غير هذه الآية الأسباب التي ينال بها رزقه كقوله: ﴿وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ فعلى العباد أن لا يطلبوا الرزق، إلا من الله، ويسعوا فيه بالأسباب التي يسرها الله وأباحها.
﴿٢٨﴾ ﴿لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ﴾ هذا نهي من الله، وتحذير للمؤمنين، أن يتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين، فإن المؤمنين بعضهم أولياء بعض، والله وليهم.
﴿وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ﴾ التولي، ﴿فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ﴾ أي: فهو بريء من الله، والله بريء منه، كقوله تعالى: ﴿وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ﴾
وقوله: ﴿إِلا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً﴾ أي: إلا أن تخافوا على أنفسكم في إبداء العداوة للكافرين، فلكم- في هذه الحال- الرخصة في المسالمة والمهادنة، لا في التولي الذي هو محبة القلب، الذي تتبعه النصرة.
﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ أي: فخافوه واخشوه، وقدموا خشيته على خشية الناس، فإنه هو الذي يتولى شؤون العباد، وقد أخذ بنواصيهم، وإليه يرجعون وسيصيرون إليه، فيجازي من قدم خوفه ورجاءه على غيره بالثواب الجزيل، ويعاقب الكافرين، ومن تولاهم بالعذاب الوبيل.
﴿٢٩- ٣٠﴾ ﴿قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾ يخبر تعالى بإحاطة علمه بما في الصدور، سواء أخفاه العباد، أو أبدوه، كما أن علمه محيط بكل شيء، في السماء والأرض، فلا تخفى عليه خافية.
ومع إحاطة علمه، فهو العظيم القدير على كل شيء، الذي لا يمتنع عن إرادته موجود.
﴿٣٠﴾ ولما ذكر لهم من عظمته وسعة أوصافه، ما يوجب للعباد أن يراقبوه في كل أحوالهم، ذكر لهم أيضا، داعيا آخر إلى مراقبته وتقواه، وهو أنهم كلهم صائرون إليه، وأعمالهم- حينئذ، من خير وشر- محضرة.
فحينئذ يغتبط أهل الخير، بما قدموا لأنفسهم، ويتحسر أهل الشر إذا وجدوا ما عملوه محضرا ويودون أن بينهم وبينه أمدا بعيدا.
فإذا عرف العبد أنه ساع إلى ربه، وكادح في هذه الحياة، وأنه لا بد أن يلاقي ربه، ويلاقي سعيه، أوجب له أخذ الحذر، والتوقي من الأعمال التي توجب الفضيحة والعقوبة، والاستعداد بالأعمال الصالحة، التي توجب السعادة والمثوبة، ولهذا قال تعالى: ﴿وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ﴾ وذلك بما يبدي لكم من أوصاف عظمته، وكمال عدله وشدة نكاله، ومع شدة عقابه، فإنه رؤوف رحيم.
ومن رأفته ورحمته، أنه خوف العباد، وزجرهم عن الغي والفساد، كما قال تعالى- لما ذكر العقوبات -: ﴿ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ﴾ فرأفته ورحمته، سهلت لهم الطرق، التي ينالون بها الخيرات، ورأفته ورحمته، حذرتهم من الطرق التي تفضي بهم إلى المكروهات.
فنسأله تعالى أن يتمم علينا إحسانه بسلوك الصراط المستقيم، والسلامة من الطرق التي تفضي بسالكها إلى الجحيم.
﴿٣١- ٣٢﴾ ﴿قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾ هذه الآية هي الميزان، التي يعرف بها من أحب الله حقيقة، ومن ادعى ذلك دعوى مجردة، فعلامة محبة الله، اتباع محمد -صلى الله عليه وسلم-، الذي جعل متابعته وجميع ما يدعو إليه، طريقا إلى محبته ورضوانه، فلا تنال محبة الله ورضوانه وثوابه، إلا بتصديق ما جاء به الرسول من الكتاب والسنة وامتثال أمرهما، واجتناب نهيهما.
فمن فعل ذلك، أحبه الله، وجازاه جزاء المحبين، وغفر له ذنوبه، وستر عليه عيوبه، فكأنه قيل: ومع ذلك، فما حقيقة اتباع الرسول وصفتها؟
﴿٣٢﴾ فأجاب بقوله: ﴿قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ﴾ بامتثال الأمر، واجتناب النهي، وتصديق الخبر، ﴿فَإِنْ تَوَلَّوْا﴾ عن ذلك، فهذا هو الكفر، والله ﴿لا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ﴾
﴿٣٣- ٣٤﴾ ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ * ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ إلى آخر القصة.
لله تعالى من عباده أصفياء، يصطفيهم ويختارهم، ويمن عليهم بالفضائل العالية، والنعوت السامية، والعلوم النافعة، والأعمال الصالحة، والخصائص المتنوعة، فذكر هذه البيوت الكبار، وما احتوت عليه من كمال الرجال، الذين حازوا أوصاف الكمال، وأن الفضل والخير تسلسل في ذراريهم وشمل ذكورهم ونساءهم، وهذا

(١) قدم الشيخ- رحمه الله- هذا الجزء من الآية، وقد آثرت إبقاءه على ما هو عليه، مع التنبيه إلى هذا التقديم.


الصفحة التالية
Icon