ذلك فإنه لا يعين عليه في محنة لحقته، بل يعلن عن غبطته بأن تزول عنه المحنة، فيذكر في التاريخ -في حوادث سنة ٧٤٣ "١٤: ٢٠٤" أنه أرجف الناس كثيرًا بقاضي القضاة في دمشق، واشتهر أنه سينعقد له مجلس للدعوى عليه بما دفعه من مال الأيتام إلى الطنبغا وإلى الفخري، وكُتِبَت فتوى عليه بذلك في تغريمه، وداروا بها على المفتين، فلم يكتب لهم أحد فيها غير القاضي جلال الدين بن حسام الدين الحنفي، رأيت خطَّه عليها وحده بعد الصلاة، وسئلت في الإفتاء عليها فامتنعت؛ لما فيها من التشويش على الحكام". ثم يقول: "وكانوا له في نية عجيبة، ففرَّج الله عنه بطلبه إلى الديار المصرية".
فهذا خُلُق أهل العلم النبلاء الأتقياء.
وقد طار ذكره في الأقطار الإسلامية، حتى إنه ليذكر في حوادث سنة ٧٦٣ "١٤: ٢٩٤-٢٩٥" أن شابًّا عجميًّا حضر من بلاد تبريز وخراسان "يزعم أنه يحفظ البخاري ومسلمًا وجامع المسانيد والكشاف للزمخشري وغير ذلك"، وأنه امتحنه بقراءة مجالس من البخاري وغيره بحضرة قاضي القضاة الشافعي وجماعة من الفضلاء، ثم قال: "وفرح بكتابتي له بالسماع على الإجازة، وقال: أنا ما خرجت من بلادي إلّا إلى القصد إليك، وأن تجيزني، وذكرك في بلادنا مشهور".
وهذا الخبر يدل على أن كتابه "جامع المسانيد" وصل إلى أقصى الشرق، في بلاد تبريز وخراسان، حتى يحفظه هذا الشاب الأعجمي أو يحفظ شيئًا منه، في حين أن الحافظ ابن كثير لم يتم تأليف "جامع المسانيد" كما هو معروف؛ فكأن العلماء وطلاب العلم كانوا ينسخون ما يخرج منه، ويتداولونه بينهم، حتى يصل من دمشق إلى تلك النواحي النائية.
ولم يكن ممن يُخْدَع في الفتاوى التي ظاهرها قَصْد الاستفتاء،