كسرتين فقوي السبب حتى أزال المانع، ولعل مرادهم أنه متكرر طبعا كما يدركه الوجدان إلا أنه يجب المحافظة لئلا يقع التقرير فإنه مضر في الأداء حتى سمعت من بعض الشافعية: أن من كرر الراء في تكبيرة الإحرام لم تنعقد صلاته والعهدة على الراوي، والجمهور على أن عَلى أَبْصارِهِمْ خبر مقدم لغشاوة والتقديم مصحح لجواز الابتداء بالنكرة مع أن فيه مطابقة الجملة قبله لأنه تقدم الجزء المحكوم به فيها وهذا كذلك، ففي الآية جملتان خبريتان فعلية دالة على التجدد واسمية دالة على الثبوت حتى كأن الغشاوة جبلية فيهم وكون الجملتين دعائيتين ليس بشيء، وفي تقديم الفعلية إشارة إلى أن ذلك قد وقع وفرغ منه، ونصب المفضل وأبو حيوة وإسماعيل بن مسلم غِشاوَةٌ فقيل هو على تقدير جعل كما صرح به في قوله تعالى: وَخَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً [الجاثية: ٢٣] وقيل:
إنه على حذف الجار، وقال أبو حيان: يحتمل أن يكون مصدرا من معنى ختم لأن معناه غشي وستر كأنه قيل تغشية على سبيل التأكيد فيكون حينئذ قلوبهم وسمعهم وأبصارهم مختوما عليها مغشاة، وقيل يحتمل أن يكون مفعول ختم والظروف أحوال أي ختم غشاوة كائنة على هذه الأمور لئلا يتصرف بها بالرفع والإزالة، وفي كل ما لا يخفى، فقراءة الرفع أولى، وقرىء أيضا بضم الغين ورفعه، وبفتح الغين ونصبه، وقرىء «غشوة» - بكسر المعجمة- مرفوعا وبفتحها مرفوعا ومنصوبا، و «غشية» بالفتح والرفع و «غشاوة» بفتح المهملة والرفع، وجوز فيه الكسر والنصب من الغشا بالفتح والقصر وهو الرؤية نهارا لا ليلا، والمعنى أنهم يبصرون إبصار غفلة لا إبصار عبرة أو أنهم لا يرون آيات الله تعالى في ظلمات كفرهم ولو زالت أبصروها، وقال الراغب: العشا ظلمة تعرض للعين، وعشي عن كذا عمي قال تعالى: وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ [الزخرف: ٣٦] فالمعنى حينئذ ظاهر والتنوين للإشارة إلى نوع من الأغطية غير ما يتعارفه الناس ويحتمل أن يكون للتعظيم أي غشاوة أي غشاوة، وصرح بعضهم بحمله على النوعية والتعظيم معا كما حمل على التكثير والتعظيم معا في قوله تعالى: فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ [فاطر: ٤] واللام في لَهُمْ للاستحقاق كما في لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ
[البقرة: ١١٤، المائدة: ٤١] وفي المغني: لام الاستحقاق هي الواقعة بين معنى وذات وهنا كذلك إلا أنه قدم الخبر استحسانا لأن المبتدأ نكرة موصوفة ولو أخر جاز ك أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ [الإنعام: ٢] ويجوز كما قيل أن يكون تقديمه للتخصيص- فلا يعذب عذابهم أحد ولا يوثق وثاقهم أحد- (١) وكون اللام للنفع واستعملت هنا للتهكم مما لا وجه له لأنها إنما تقع له في مقابلة عَلى في الدعاء وما يقاربه ولم يقل به أحد ممن يوثق به هنا ولا يقال عليهم العذاب، والظاهر أن الجملة مساقة لبيان إصرارهم أن مشاعرهم ختمت وأن الشقوة عليهم ختمت، وهي معطوفة على ما قبلها وليست استئنافا ولا حالا، وقال السالكوتي: عطف- على الذين كفروا- والجامع أن ما سبق بيان حالهم وهذا بيان ما يستحقون، أو على خبر إن والجامع الشركة في المسند إليه مع تناسب مفهوم السندين، وجعل ذلك لدفع ما يتوهم عدم استحقاقهم العذاب على كفرهم لأنه بختم الله تعالى وتغشيته ليس بوجيه كما لا يخفى.
والعذاب في الأصل الاستمرار ثم اتسع فيه فسمي به كل استمرار ألم، واشتقوا منه فقالوا: عذبته أي داومت عليه الألم قاله أبو حيان، وعن الخليل- وإليه مال كثير- أن أصله المنع يقال عذب الفرس إذا امتنع عن العلف، ومنه العذب لمنعه من العطش ثم توسع فأطلق على كل مؤلم شاق مطلقا وإن لم يكن مانعا ورادعا ولهذا كان أعم من النكال لأنه ما كان رادعا كالعقاب، وقيل: العقاب ما يجازى به كما في الآخرة، وشمل البيان عذاب الأطفال والبهائم

(١) قاله بهاء الدين الغافقي اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon