كانت أو خيالية أو حسية سمع العبد على الوجه اللائق المجامع ل لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ [الشورى: ١١] عند من يتحقق معنى الإطلاق الحقيقي صح أن يتعلق سمع العبد بكلام ليس حروفه عارضة لصوت لأنه بالله يسمع إذ ذاك والله سبحانه يسمع السر والنجوى.
والإمام الماتريدي أيضا يجوز سماع ما ليس بصوت على وجه خرق العادة كما يدل عليه كلام صاحب التبصرة في كتاب التوحيد. فما نقله ابن الهمام عنه من القول بالاستحالة فمراده الاستحالة العادية فلا خلاف بين الشيخين عند التحقيق، ومعنى قول الأشعري أن كلام الله تعالى القائم بذاته يسمع عند تلاوة كل تال وقراءة كل قارئ أن المسموع أولا وبالذات عند التلاوة إنما هو الكلام اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت القارئ بلا شك لكن الكلمات اللفظية صور الكلمات الغيبية القائمة بذات الحق فالكلام النفسي مسموع بعين سماع الكلام اللفظي لأنه صورته لا من حيث الكلمات الغيبية فإنها لا تسمع إلا على طريق خرق العادة «وقول» الباقلاني إنما تسمع التلاوة دون المتلو والقراءة دون المقروء يمكن حمله على أنه أراد إنما يسمع أولا وبالذات التلاوة أي المتلو اللفظي الذي حروفه عارضة لصوت التالي لا النفسي الذي حروفه غيبية مجردة عن المواد الحسية والخيالية فلا نزاع في التحقيق أيضا.
والفرق بين سماع موسى عليه السلام كلام الله تعالى وسماعنا له على هذا أن موسى عليه السلام سمع من الله عز وجل بلا واسطة لكن من وراء حجاب ونحن إنما نسمعه من العبد التالي بعين سماع الكلام اللفظي المتلو بلسانه العارض حروفه لصوته لا من الله تعالى المتجلي من وراء حجاب العبد فلا يكون سماعا من الله تعالى بلا واسطة وهذا واضح عند من له قدم راسخة في العرفان وظاهر عند من قال بالمظاهر مع تنزيه الملك الديان. وأنت إذا أمنعت النظر في قول أهل السنة القرآن كلام الله عز وجل غير مخلوق وهو مقروء بألسنتنا مسموع بآذاننا محفوظ في صدورنا مكتوب في مصاحفنا غير حال في شيء منها رأيته قولا بالمظاهر ودالا على أن تنزل القرآن القديم القائم بذات الله تعالى فيها غير قادح في قدمه لكونه غير حال في شيء منها مع كون كل منها قرآنا حقيقة شرعية بلا شبهة وهذا عين الدليل على أن تجلي القديم في مظهر حادث لا ينافي قدمه وتنزيهه وليس من باب الحلول ولا التجسيم، ولا قيام الحوادث بالقديم ولا ما يشاكل ذلك من شبهات تعرض لمن لا رسوخ له في هاتيك المسالك، ومنه يظهر معنى ظهور القرآن في صورة الرجل الشاحب يلقى صاحبه حين ينشق عنه القبر وظهوره خصما لمن حمله فخالف أمره وخصما دون من حمله فحفظ الأمر بل من أحاط خبرا بأطراف ما ذكرناه وطاف فكره المتجرد عن مخبط الهوى في كعبة حرم ما حققناه اندفع عنه كل إشكال في هذا الباب ورأى أن تشنيع ابن تيمية وابن القيم وابن قدامة وابن قاضي الجبل والطوفي وأبي نصر وأمثالهم (١) صرير باب أو طنين ذباب وهم وإن كانوا فضلاء محققين وأجلاء مدققين لكنهم كثيرا

(١) وما ذكره المؤلف رحمه الله تعالى في حق هؤلاء الأئمة مبالغ فيه. ولعله لم يطلع على مؤلفاتهم فإن للإمام ابن تيمية كتابا شرح فيه النزول وبين صفة الكلام والنزول وغير ذلك من صفات الله تعالى وأنه لا فرق بينها في الاعتقاد بإبقائها على ظاهرها بدون تحريف ولا تأويل ولا تصحيف وأورد كلام علماء السلف في ذلك. وللإمام ابن القيم أيضا كتاب سماه اجتماع الجيوش الإسلامية على غزو المعطلة والجهمية عنى بهؤلاء المؤولين لصفات الله بما لم يرد به دليل من كتاب ولا سنة ولا قول لصحابي ولا تابعي، وحاصل اعتقاد السلف في ذلك أن لله كلاما هو صفته كما أخبر بذلك في كتابه وعلى لسان رسوله وأنه ليس كمثله شيء، والبحث في ذلك ليس من سنة السلف وأئمة الدين بل هو من المتكلمين الذين أشرب في قلوبهم نقل علوم اليونانيين زمن المأمون فأكسبهم خيالات وهمية في أذهانهم وفرضيات فاسدة واحتمالات ما أنزل الله بها من سلطان. نسأل الله إصلاح الأمة والعمل بما كان عليه سلفها: اهـ


الصفحة التالية
Icon