فساد القول بها بقوله تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ [الإسراء: ٨٨] الآية فإنه يدل على عجزهم مع بقاء قدرهم ولو سلبوا القدرة لم تبق فائدة لاجتماعهم لأنه بمنزلة اجتماع الموتى وليس عجز الموتى مما يحتفل بذكره ولا بأس بانضمامه إلى ما ذكرناه، وأما الاكتفاء به في الاستدلال فلا أظنك ترضاه. وقال الآمدي وغيره الإعجاز بجملته (١) وبالنظر إلى نظمه وبلاغته وإخباره عن الغيب وارتضاه الكثير، وقولهم فيما قيل: لا نسلم المخالفة إلخ يجاب عنه بأن ما ذكروه وإن كان على وزن الشعر إلا أنه لا يعد شعرا ولا قائله شاعرا لأن الشعر ما قصد وزنه وحيث لا قصد لا شعر وقد يعرض للبلغاء في سرد خطبهم المنسجمة مثل ذلك بل قد يتفق لمن لا يعرف الشعر رأسا من العوام كلمات متزنة نحو قول السيد لعبده مثلا ادخل السوق واشتر اللحم واطبخ، ولهذا
قال الوليد (٢) :«لما قرأ عليه النبي صلى الله تعالى عليه وسلم القرآن فكأنما رق له فاقترح عليه أبو جهل أن يقول فيه ما يبلغ قومه أنه منكر له وكاره ماذا أقول فو الله ما فيكم رجل أعلم بالشعر مني ولا برجزه ولا بقصيدة ولا بأشعار الجن والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا وو الله إن لقوله الذي يقوله حلاوة وإن عليه لطلاوة وإنه لمثمر أعلاه ومغدق أسفله وإنه ليعلو ولا يعلى وإنه ليحطم ما تحته»
وقولهم: إنا لو سلمنا إلخ مسلم لكن لا يلزم أن لا يكون مع البلاغة والاخبار بالغيب معجزا ومن هنا يعلم الجواب عن الاعتراض على أن وجه إعجازه بلاغته على أن الأوجه الخمسة التي ذكروها فيه باطلة.
«أما الأول» فلأن التفاوت بين لمن تحدى به من البلغاء ولذا لم يعارض وغيرهم عم عن ذلك لقصوره في الصناعة فلا اعتداد به ولا مضرة لثبوت الإعجاز بعجز أولئك ثم قياس أقصر سورة على ما ذكروه (٣) عدول عن سواء السبيل «وأما الثاني» فلأن القدرة على البعض لا تستلزم القدرة على الكل ولهذا نجد الكثير قادرا على بليغ فقرة أو فقرتين أو بيت أو بيتين ولا يقدر على وضع خطبة ولا نظم قصيدة.
«وأما الثالث» فلأن الصحابة لم يختلفوا فيما اختلفوا فيه أنه نازل على النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم من ربه أو أن بلاغته غير معجزة ولكنهم اختلفوا في أنه قرآن وذلك لا يضر فيما نحن بصدده.
«وأما الرابع» فلأن طلب البينة لما قدمناه في الفائدة السادسة أو للوضع والترتيب كما قيل أو لمزيد الاحتياط في الأمر الخطير «وأما الخامس» فلأن المعجز يظهر في كل زمان من جنس ما يغلب ويبلغ فيه الغاية القصوى ويوقف فيه على الحد المعتاد حتى إذا شوهد ما هو خارج عن الحد علم أنه من عند الله وإلا لم يتحقق عند القوم معجزة النبي ولظنوا أنهم لو كانوا من أهل تلك الصنعة أو متناهين فيها لأمكنهم أن يأتوا بمثلها والبلاغة قد بلغت في ذلك العهد حدها وكان فيها فخارهم حتى علقت السبع بباب الكعبة تحديا بمعارضتها فلما أتى الرسول صلى الله تعالى عليه وسلم بما عجزوا عن مثله مع كثرة المنازعة والتشاجر والافتراق علم أن ذلك من عند الله تعالى بلا ريب، واعتراضهم على كون الأخبار بالغيب معجزا مكابرة فإن الاخبار عن الغائبات مع التكرر والإصابة غير معتاد ولا معنى لكونه معجزا غير هذا وما ذكروه من الوجوه باطل.
«أما الأول» فلأنه لا يلزم من عدم كون الإصابة في المرة والمرتين من الخوارق أن لا تكون الإصابة في الكرات

(١) كون الإعجاز بجملته نسبة الإمام السيوطي لبعض المعتزلة وقد ورد التحدي بكل القرآن وبعشر سور وبسورة قيل ولو قصيرة لظاهر الإطلاق وقيل تبلغ مبلغا يتبين فيه رتب ذوي البلاغة فأفهم وتدبر اهـ منه.
(٢) والخبر طويل أخرجه الحاكم وصححه والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس اهـ منه.
(٣) على انه يكفينا في الغرض كون القرآن بجملته أو بسوره الطوال معجزا فافهم اهـ منه.


الصفحة التالية
Icon