ذواتها وأعراضها، ووافقه في اختيار ذلك تلميذه المدقق صاحب الكشف، واعترض قول الزمخشري: فما أجهل إلخ بقوله فيه ما مر مرارا كأنه يعني مخالفة النصوص في عدم كون الكفر مخلوقا كغيره على أن خلق الكفر أيضا من النعم العظام فلولا خلقه وتبيين ما فيه من المضار ما ظهر مقدار الإنعام بالإيمان وما فيه من المنافع، ثم إن كونه كفرا باعتبار قيامه بالعبد ومنه جاء القبح لا باعتبار كونه خلقه تعالى على ما حقق في موضعه، ثم قال: ومنه يظهر أن كلفه في قوله تعالى: فَمِنْكُمْ إلخ ليخرجه عن تفصيل المجمل في خَلَقَكُمْ تحريف لكتاب الله تعالى انتهى.
ويرجح التفصيل عندي في الجملة قوله تعالى: كافِرٌ ومُؤْمِنٌ دون من يكفر ومن يؤمن، نعم عدم دخول الكفر والإيمان في الخلق أوفق بقوله تعالى: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: ٣٠]
وقوله صلّى الله تعالى عليه وسلم: «كل مولود يولد على الفطرة»
والإنصاف أن الآية تحتمل كلّا من المعنيين: المعنى الذي ذكر أولا.
والمعنى الذي اختاره البعض، والسياق يحتمل أن يحمل على ما يناسب كلا وليس نصا في أحد الأمرين اللذين سمعتهما حتى قيل: إن الآيات واردة لبيان ما يتوقف عليه الوعد والوعيد بعد من القدرة التامة والعلم المحيط بالنشأتين، وقوله تعالى: وَاللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي فيجازيكم بما يناسب ذلك لا ينافي خلق الكفر والإيمان لأنهما مكسوبان للعبد، وخلق الله تعالى إياهما لا ينافي كونهما مكسوبين للعبد كما بين في الكلام على قوله تعالى:
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَما تَعْمَلُونَ [الصافات: ٩٦] لكن أكثر الأحاديث تؤيد المعنى الأول، وكأني بل تختار الثاني لأن كون المقام للتوبيخ على الكفر أظهر وهو أوفق به، وعن عطاء بن أبي رباح فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي بالله تعالى مؤمن بالكوكب وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ بالله تعالى كافر بالكوكب، وقيل: فَمِنْكُمْ كافِرٌ بالخلق وهم الدهرية وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، وعن الحسن أن في الكلام حذفا والتقدير ومنكم فاسق، ولا أراه يصح، وكأنه من كذب المعتزلة عليه، والجملة- على ما استظهر بعض الأفاضل- معطوفة على الصلة، ولا يضره عدم العائد لأن المعطوف بالفاء يكفيه (١) وجود العائد في إحدى الجملتين كما قرروه في نحو الذي يطير فيغضب زيد الذباب، أو يقال: فيها رابط بالتأويل أي منكم من قدر كفره ومنكم من قدر إيمانه، أو فَمِنْكُمْ كافِرٌ به وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ به، ويقدر الحذف تدريجا، وجوز أن يكون العطف على جملة هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ.
خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ بالحكمة البالغة المتضمنة للمصالح الدينية والدنيوية، قيل: وأصل الحق مقابل الباطل فأريد به الغرض الصحيح الواقع على أتم الوجوه وهو الحكمة العظيمة.
وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ حيث برأكم سبحانه في أحسن تقويم وأودع فيكم من القوى والمشاعر الظاهرة والباطنة ما نيط بها جميع الكمالات البارزة والكامنة وزينكم بصفوة صفات مصنوعاته وخصكم بخلاصة خصائص مبدعاته وجعلكم أنموذج جميع مخلوقاته في هذه النشأة، وقد ذكر بعض المحققين أن الإنسان جامع بين العالم العلوي والسفلي، وذلك لروحه التي هي من عالم المجردات وبدنه الذي هو من عالم الماديات وأنشدوا:
وتزعم أنك جرم صغير... وفيك انطوى العالم الأكبر
ولعمري إن الإنسان أعجب نسخة في هذا العالم قد اشتملت على دقائق أسرار شهدت ببعضها الآثار وعلم ما علم منها ذوو الأبصار، وخص بعضهم الصورة بالشكل المدرك بالعين كما هو معروف، وكل ما يشاهد من الصور