فساده يتشبث بهما معا وأن يكون ذلك لكل واحدة منهما على التعاقب وهو المناسب بحال الجاهل لأنه متحير تارة يتبع ظاهره وتارة يؤوله بما يشتهيه لكونه في قبضة هواه يتبعه كلما ادعاه، ومن الناس من حمل الفتنة على المال فإن الله سبحانه قد سماه فتنة في مواضع من كلامه ولا يخفى أنه ليس بشيء مدعى- ودليلا، وفي تعليل الاتباع- بابتغاء تأويله- دون نفس تَأْوِيلِهِ وتجريد- التأويل- عن الوصف بالصحة والحقية إيذان بأنهم ليسوا من التأويل- في عير ولا نفير، ولا قبيل ولا دبير- وأن ما يتبعونه ليس بتأويل أصلا لا أنه تأويل غير صحيح قد يعذر صاحبه وَما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ في موضع الحال من ضمير- يتبعون- باعتبار العلة الأخيرة أي يتبعون المتشابه لابتغاء تأويله، والحال أن التأويل المطابق للواقع كما يشعر به التعبير بالعلم والإضافة إلى الله تعالى مخصوص به سبحانه وبمن وفقه عز شأنه من عباده الراسخين في العلم أي الذين ثبتوا وتمكنوا فيه ولم يتزلزلوا في مزال الأقدام ومداحض الإفهام دونهم حيث إنهم بمعزل عن تلك الرتبة هذا ما يقتضيه الظاهر في تفسير الراسخين،
وأخرج ابن عساكر من طريق عبد الله بن يزيد الأزدي قال: «سمعت أنس بن مالك يقول: سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم عن الراسخين في العلم فقال: من صدق حديثه وبر في يمينه وعف بطنه وفرجه فذلك الراسخون في العلم ولعل ذلك بيان علامتهم وما ينبغي أن يكونوا عليه، والمراد بالعلم العلم الشرعي المتقبس من مشكاة النبوة فإن أهله هم الممدوحون.»
يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ استئناف موضح لحال الراسخين ولهذا فصل، والنحاة يقدرون له مبتدأ دائما- أي هم يقولون- وقد قيل: إنه لا حاجة إليه ولم يعرف وجه التزامهم لذلك فلينظر، وجوز أن يكون حالا من الراسخين- والضمير المجرور راجع إلى المتشابه وعدم التعرض لإيمانهم بالمحكم لظهوره وإن رجع إلى الكتاب فله وجه أيضا لأن ماله كل من أجزاء الكتاب أو جزئياته وذلك لا يخلو عن الأمرين، ثم هذا القول وإن لم يخص- الراسخين- لكن فيه تعريض بأن مقتضى الإيمان به أن لا يسلك فيه طريق لا يليق من تأويله على ما مر فكأن غيرهم ليس بمؤمن كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا من تمام مقولهم مؤكد لما قبله ومقرر له أي كل واحد منه ومن المحكم- أو كل واحد من متشابهه ومحكمه منزل من عنده تعالى لا مخالفة بينهما، وفي التعبير بالرب إشارة إلى سر إنزال المتشابه، والحكمة فيه لما أنه متضمن معنى التربية والنظر في المصلحة والإيصال إلى معارج الكمال أولا فأولا، وقد قالوا: إنما أنزل المتشابه لذلك ليظهر فضل العلماء ويزداد حرصهم على الاجتهاد في تدبره وتحصيل العلوم التي نيط بها استنباط ما أريد به من الأحكام الحقيقية فينالوا بذلك وبإتعاب القرائح واستخراج المقاصد الرائقة والمعاني اللائقة المدارج العالية ويعرجوا بالتوفيق بينه وبين المحكم إلى رفرف الإيقان وعرش الاطمئنان ويفوزوا بالمشاهد السامية وحينئذ ينكشف لهم الحجاب ويطيب لهم المقام في رياض الصواب، وذلك من التربية والإرشاد أقصى غاية ونهاية في رعاية المصلحة ليس وراءها نهاية.
وَما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ عطف على جملة يَقُولُونَ سيق من جهته تعالى مدحا للراسخين بجودة الذهن وحسن النظر ما أنهم قد تجردت عقولهم عما يغشاها من الركون إلى الأهواء الزائغة المكدرة لها واستعدوا إلى الاهتداء إلى معالم الحق والعروج إلى معارج الصدق، وللإشارة إلى ذلك وضع الظاهر موضع الضمير هذا على تقدير أن يكون الوقف على الرَّاسِخُونَ وهو الذي ذهب إليه الشافعية، وسائر من فسر المتشابه بما لم يتضح معناه، وأما على تقدير أن يكون الوقف على إِلَّا اللَّهُ وهو الذي ذهب إليه الحنفية القائلون بأن المتشابه ما استأثر الله تعالى بعلمه فالراسخون مبتدأ وجملة يَقُولُونَ خبر عنه، ورجح الأول بوجوه: أما أولا فلأنه لو أريد بيان حظ الراسخين مقابلا لبيان حظ الزائغين لكان المناسب أن يقال وأما الراسخون فيقولون، وأما ثانيا فلأنه لا فائدة حينئذ في قيد الرسوخ بل هذا حكم العالمين كلهم، وأما ثالثا فلأنه لا ينحصر حينئذ الكتاب في المحكم والمتشابه على ما هو مقتضى ظاهر


الصفحة التالية
Icon