وَمَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع فطرة الإسلام التي ما من مولود إلا يولد عليها أو فطرة الخير الذي هو أصل الجبلة.
وقوله تعالى: بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ متعلق بخسروا، وإما مصدرية وبِآياتِنا متعلق بيظلمون وقدم عليه للفاصلة، وعدي الظلم بالباء لتضمنه معنى التكذيب أو الجحود، والجمع بين صيغتي الماضي والمضارع للدلالة على استمرار الظلم في الدنيا. وظاهر النظم الكريم أن الوزن ليس مختصا بالمسلمين بل الكفار أيضا توزن أعمالهم التي لا توقف لها على الإسلام وإلى ذلك ذهب البعض. وادعى القرطبي أن الصحيح أنه يخفف بها عذابهم وإن لم تكن راجحة كما ورد في حق أبي طالب. وذهب الكثير إلى أن الوزن مختص بالمسلمين. وأما الكفار فتحبط أعمالهم كيفما كانت، وهو أحد الوجهين في قوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً [الكهف: ١٠٥] ولا يخفف بها عنهم من العذاب شيء، وما ورد من التخفيف عن أبي طالب فقد قال السخاوي: إن المعتمد أنه مخصوص به، وعلى هذا فلا بد من ارتكاب خلاف الظاهر في الآية، وهي على كلا التقديرين ساكتة عن بيان حال من تساوت حسناته وسيئاته وهم أهل الأعراف على قول. ومن هنا استدل بعضهم على عدم وجود هذا القسم، ورد بأنه قد يدرج في القسم الأول لقوله سبحانه خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ [التوبة: ١٠٢] وعسى من الله تعالى تحقيق كما صرحوا به وفيه نظر وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ ترغيب في قبول دعوة النبي عليه الصلاة والسلام بتذكير النعم إثر ترغيب.
وذكر الطيبي أن هذا نوع آخر من الإنذار فإنه جملة قسمية معطوفة على قوله سبحانه: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ [الأعراف: ٣] على تقدير قل اتبعوا وقل والله لقد مكناكم، والمعنى جعلنا لكم في الأرض مكانا وقرارا.
وقيل: أقدرناكم على التصرف فيها فهو حينئذ كناية ورجحت هنا الحقيقة وَجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أي ما تعيشون به وتحيون من المطاعم والمشارب ونحوها أو ما تتوصلون به إلى ذلك، وهو في الأصل مصدر عاش يعيش عيشا وعيشة ومعاشا ومعيشة بوزن مفعلة، والجمهور على التصريح بالياء فيها، وروي عن نافع معائش بالهمز وغلّطه النحويون ومنهم سيبويه في ذلك لأنه لا يهمز عندهم بعد ألف الجمع إلا الياء الزائدة كصحيفة وصحائف وأما معايش فياؤه أصلية هي عين الكلمة لأنها من العيش وبالغ أبو عثمان فقال: إن نافعا لم يكن يدري بالعربية، وتعقب ذلك بأن هذه القراءة وإن كانت شاذة غير متواترة مأخوذة من الفصحاء الثقات والعرب قد تشبه الأصلي بالزائد لكونه على صورته، وقد سمع هذا عنهم فيما ذكر وفي مصائب ومنائر أيضا.
وقول سيبويه: إنها غلط يمكن أن يراد به أنها خارجة عن الجادة والقياس، وكثيرا ما يستعمل الغلط في كتابه بهذا المعنى، والجعل بمعنى الإنشاء والإبداع وكل واحد من الظرفين متعلق به أو بمحذوف وقع حالا من مفعوله المنكر إذ لو تأخر لكان صفة له وتقديمهما على المفعول مع أن حقهما التأخير عنه- كما قال بعض المحققين- للاعتناء بشأن المقدم والتشويق إلى المؤخر فإن النفس عند تأخير ما حقه التقديم لا سيما عند كون المقدم منبئا عن منفعة السامع تبقى مترقبة لورود المؤخر فيتمكن فيها عند الورود فضل تمكن، وأما تقديم اللام على في فلما أنه المنبئ عما ذكر من المنفعة والاعتناء بشأنه أتم والمسارعة إلى ذكره أهم، وقيل: إن الجعل متعد إلى مفعولين ثانيهما أحد الظرفين على أنه مستقر قدم على الأول، والظرف الآخر إما لغو متعلق بالجعل أو بالمحذوف الواقع حالا من المفعول الأول كما مر، واعترض بأنه لا فائدة يعتد بها في الإخبار بجعل المعايش حاصلة لهم أو حاصلة في الأرض قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تلك النعمة الجسمية، وهو تذييل مسوق لبيان سوء المخاطبين وتحذيرهم. قال الطيبي: والتذييل بذلك


الصفحة التالية
Icon