بتفاوت ما بينهما وإن كان كل من الأمرين واجبا لأن الأول إنما يطلب للثاني كما في قولك: توضأ ثم صل، وقيل:
للإيذان بالتفاوت لأن الأول لإباحة السير في الأرض للتجارة وغيرها من المنافع. والثاني لإيجاب النظر في آثار الهالكين، ولا ريب في تباعد ما بين الواجب والمباح. وأورد عليه- كما قال الشهاب- أنه يأباه سلامة الذوق لأن فيه إقحام أمر أجنبي وهو بيان إباحة السير للتجارة بين الأخبار عن حال المستهزئين وما يناسبه وما يتصل به من الأمر بالاعتبار بآثارهم وهو مما يخل بالبلاغة إخلالا ظاهرا.
وتعقب بأن هذا وإن تراءى في بادىء النظر لكنه غير وارد إذ ذاك غير أجنبي لأن المراد خذلانهم وتخليتهم وشأنهم من الإعراض عن الحق بالتشاغل بأمر دنياهم كقوله تعالى: وَلِيَتَمَتَّعُوا [العنكبوت: ٦٦]. وهذا حاصل ما قيل: إن الكلام مجاز عن الخذلان والتخلية وإن ذلك الأمر متسخط إلى الغاية كما تقول لمن عزم على أمر مؤد إلى ضرر عظيم فبالغت في نصحه ولم ينجع فيه أنت وشأنك وافعل ما شئت فإنك لا تريد بذلك حقيقة الأمر كيف والآمر بالشيء مريد له وأنت شديد الكراهة متحسر ولكنك كأنك قلت له: إذ قد أبيت النصح فأنت أهل لأن يقال لك: افعل ما شئت. ولا يخفى أن انفهام ذلك من الآية في غاية البعد. وفرق الزمخشري بين هذه الآية وقوله تعالى في سورة النمل: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بحمل الأمر بالسير هنا على الإباحة المذكورة آنفا، وحمل الأمر به هناك على السير لأجل النظر. ولهذا كان العطف بالفاء في تلك الآية. ونظر فيه بعضهم بغير ما أشرنا إليه أيضا.
وذكر أن التحقيق أنه سبحانه قال هنا: ثُمَّ انْظُرُوا وفي غير ما موضع فَانْظُروا [آل عمران: ١٣٧، النحل: ٣٦، النمل: ٦٩، العنكبوت: ٢٠، الروم: ٤٢] لأن المقام هنا يقتضي ثم دونه في هاتيك المواضع. وذلك لتقدم قوله تعالى فيما نحن فيه أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ [الأنعام: ٦] مع قوله سبحانه وتعالى: وَأَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ [الأنعام: ٦] والأول يدل على أن الهالكين طوائف كثيرة. والثاني يدل على أن المنشأ بعدهم أيضا كثيرون فيكون أمرهم بالسير دعاء لهم إلى العلم بذلك فيكون المراد به استقراء البلاد ومنازل أهل الفساد على كثرتها ليروا الآثار في ديار بعد ديار وهذا مما يحتاج إلى زمان ومدة طويلة تمنع من التعقيب الذي تقتضيه الفاء ولا كذلك في المواضع الأخر اه، ولا يخلو عن دغدغة.
واختار غير واحد أن السير متحد هناك وهنا ولكنه أمر ممتد يعطف النظر عليه بالفاء تارة نظرا إلى آخره، وتارة أخرى نظرا إلى أوله وكذا شأن كل ممتد قُلْ على سبيل التقريع لهم والتوبيخ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَالْأَرْضِ من العقلاء وغيرهم أي لمن الكائنات جميعا خلقا وملكا وتصرفا.
وقوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِلَّهِ تقرير للجواب نيابة عنهم أو إلجاء لهم إلى الإقرار بأن الكل له سبحانه وتعالى وفيه إشارة إلى أن الجواب قد بلغ من الظهور إلى حيث لا يقدر على إنكاره منكر، ولا على دفعه دافع فإن أمر السائل بالجواب إنما يحسن- كما قال الإمام- في موضع يكون فيه الجواب كذلك، قيل: وفيه إشارة إلى أنهم تثاقلوا في الجواب مع تعينه لكونهم محجوجين، وذكر عصام الملة أن قوله سبحانه وتعالى: قُلْ لِمَنْ إلخ معناه الأمر بطلب هذا المطلب والتوجه إلى تحصيله. وقوله عز وجل: قُلْ لِلَّهِ معناه أنك إذا طلبت وأدى نظرك إلى الحق فاعترف به ولا تنكره. وهذا إرشاد إلى طريق التوحيد في الأفعال بعد الإرشاد إلى التوحيد في الألوهية وهو الاحتراز عن حال المكذبين.
وفي هذا إشارة إلى وجه الربط وسيأتي إن شاء الله تعالى قريبا ما يعلم منه الوجه الوجيه لذلك، والجار


الصفحة التالية
Icon