والمجرور خبر مبتدأ محذوف أي لله تعالى ذلك أو ذلك لله تعالى شأنه كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ جملة مستقلة داخلة تحت الأمر صادحة بشمول رحمته عز وجل لجميع الخلق إثر بيان شمول ملكه وقدرته سبحانه وتعالى للكل المصحح لإنزال العقوبة بالمكذبين مسوقة لبيان أنه تعالى رؤوف بالعباد لا يعجل عليهم بالعقوبة ويقبل منهم التوبة وما سبق وما لحق من أحكام الغضب ليس إلا من سوء اختيار العباد لسوء استعدادهم الأزلي لا من مقتضيات ذاته جل وعلا وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، ومعنى كتب الرحمة على نفسه جل شأنه إيجابها بطريق التفضل والإحسان على ذاته المقدسة بالذات لا بتوسط شيء. وقيل: هو ما
أخرجه الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: «قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم لما قضى الله تعالى الخلق كتب كتابا فوضعه عنده فوق العرش أن رحمتي سبقت غضبي»،
وفي رواية الترمذي عنه مرفوعا «لما خلق الله تعالى الخلق كتب كتابا عنده بيده على نفسه أن رحمتي تغلب غضبي»،
وفي رواية ابن مردويه عنه «أن الله تعالى كتب كتابا بيده لنفسه قبل أن يخلق السماوات والأرض فوضعه تحت عرشه فيه رحمتي سبقت غضبي»
إلى غير ذلك من الأخبار، ومعنى سبق الرحمة وغلبتها فيها أنها أقدم تعلقا بالخلق وأكثر وصولا إليهم مع أنها من مقتضيات الذات المفيضة للخير.
وفي شرح مسلم للإمام النووي قال العلماء: غضب الله تعالى ورضاه يرجعان إلى معنى الإرادة فإرادته الثواب للمطيع والمنفعة للعبد تسمى رضا ورحمة وإرادته عقاب العاصي وخذلانه تسمى غضبا. وإرادته سبحانه وتعالى صفة له قديمة يريد بها، قالوا: والمراد بالسبق والغلبة هنا كثرة الرحمة وشمولها كما يقال غلب على فلان الكرم والشجاعة إذا كثرا منه انتهى، وهو يرجع إلى ما قلنا. وحاصل الكلام في ذلك أن السبق والغلبة في التعلقات في نفس الصفة الذاتية إذ لا يتصور تقدم صفة على صفة فيه تعالى لاستلزامه حدوث المسبوق، وكذا لا يتصور. الكثرة والقلة بين صفتين لاستلزام ذلك الحدوث وقد يراد بالرحمة ما يرحم به وهي بهذا المعنى تتصف بالتعدد والهبوط ونحو ذلك أيضا، وعليه يخرج ما
أخرجه مسلم وابن مردويه عن سلمان الفارسي رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: إن لله تعالى خلق يوم خلق السماوات والأرض مائة رحمة كل رحمة طباق ما بين السماوات والأرض فجعل منها في الأرض رحمة فبها تعطف الوالدة على ولدها والوحش والطير بعضها على بعض فإذا كان يوم القيامة أكملها بهذه الرحمة».
وأخرج عبد بن حميد وغيره عن عبد الله بن عمرو وقال: «إن لله تعالى مائة رحمة أهبط منها رحمة واحدة إلى أهل الدنيا يتراحم بها الجن والإنس وطائر السماء وحيتان الماء ودواب الأرض وهوامها وما بين الهواء واختزن عنده تسعا وتسعين رحمة حتى إذا كان يوم القيامة اختلج الرحمة التي كان أهبطها إلى أهل الدنيا فحواها إلى ما عنده فجعلها في قلوب أهل الجنة وعلى أهل الجنة»،
والمراد بالرحمة في الآية ما يعم الدارين مع عموم متعلقها، فما روي عن الكلبي من أن المعنى أوجب لنفسه الرحمة لأمة محمد صلّى الله عليه وسلّم بأن لا يعذبهم عند التكذيب كما عذب من قبلهم من الأمم الخالية والقرون الماضية عند ذلك بل يؤخرهم إلى يوم القيامة لم يدع إليه إلا إظهار ما يناسب المقام من أفراد ذلك العام. وفي التعبير عن الذات بالنفس رد على من زعم أن لفظ النفس لا يطلق على الله تعالى وإن أريد به الذات إلا مشاكلة. واعتبار المشاكلة التقديرية غير ظاهر كما هو ظاهر، وقوله سبحانه: لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ جواب قسم محذوف وقع- على ما قال أبو البقاء- كتب موقعه. والجملة استئناف نحوي مسوق للوعيد على إشراكهم وإغفالهم النظر، وقيل: بياني كأنه قيل: وما تلك الرحمة فقيل: إنه تعالى لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلخ وذلك لأنه لولا خوف القيامة والعذاب لحصل الهرج والمرج وارتفع الضبط وكثر الخبط. وأورد عليه أنه إنما يظهر ما ذكر لو كانوا معترفين بالبعث وليس فليس.


الصفحة التالية
Icon