ولا يخفى على المتأمل أن ما ذكر لا يقتضي تعين الأول نعم يقتضي أولويته.
والمراد بالملائكة الملائكة الذين وقع بهم الإمداد، وصيغة المضارع لاستحضار الصورة، والمعنى إذ أوحى أَنِّي مَعَكُمْ أي معينكم على تثبيت المؤمنين، ولا يمكن حمله على إزالة الخوف كما في قوله سبحانه وتعالى:
لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا [التوبة: ٤٠] لأن الملائكة لا يخافون من الكفرة أصلا، وما تشعر به كلمة مع من متبوعية الملائكة لا يضر في مثل هذه المقامات، وهو نظير إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [البقرة: ١٥٣، الأنفال: ٤٦] ونحوه، والمنسبك، مفعول يوحى، وقرىء إني بالكسر على تقدير القول أي قائلا إني معكم، أو إجراء الوحي مجراه لكونه متضمنا معناه، والفاء في قوله سبحانه: فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا لترتيب ما بعدها على ما قبلها، والمراد بالتثبيت الحمل على الثبات في موطن الحرب والجد في مقاساة شدائد القتال قالا أو حالا، وكان ذلك هنا في قول بظهورهم لهم في صورة بشرية يعرفونها ووعدهم إياهم النصر على أعدائهم، فقد أخرج البيهقي في الدلائل أن الملك كان يأتي الرجل في صورة الرجل يعرفه فيقول: أبشروا فانهم ليسوا بشيء والله معكم كروا عليهم، وجاء في رواية كان الملك يتشبه بالرجل فيأتي ويقول: إني سمعت المشركين يقولون: والله لئن حملوا علينا لنكشفن ويمشي بين الصفين ويقول: أبشروا فإن الله تعالى ناصركم.
وقال الزجاج: كان بأشياء يلقونها في قلوبهم تصح بها عزائمهم ويتأكد جدهم، وللملك قوة إلقاء الخير في القلب ويقال له الهام كما أن للشيطان قولة إلقاء الشر ويقال له وسوسة وقيل: كان ذلك بمجرد تكثير السواد.
وعن الحسن أنه كان بمحاربة أعدائهم وذهب إلى ذلك جماعة وجعلوا قوله تعالى سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ تفسير القول تعالى: أَنِّي مَعَكُمْ كأنه قيل: إني معكم في إعانتهم بإلقاء الرعب في قلوب أعدائهم، والرعب بضم فسكون وقد يقال بضمتين وبه قرأ ابن عامر والكسائي الخوف وانزعاج النفس بتوقع المكروه، وأصله التقطيع من قولهم: رعبت السنام ترعيبا إذا قطعته مستطيلا كأن الخوف يقطع الفؤاد أو يقطع السرور بضده، وجاء رعب السيل الوادي إذا ملأه كان السيل قطع السلوك فيه أو لأنه انقطع إليه من كل الجهات، وجعلوا قوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ تفسيرا لقوله تبارك وتعالى: فَثَبِّتُوا مبين لكيفية التثبيت. وقد أخرج عبد بن حميد وابن مردويه على أبي داود المازني قال: بينا أنا أتبع رجلا من المشركين يوم بدر فأهويت بسيفي إليه فوقع رأسه قبل أن يصل سيفي إليه فعرفت أنه قد قتله غيري.
وقال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما بينما رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه وقائلا يقول: أقدم حيزوم فخر المشرك مستلقيا فنظر إليه فإذا هو قد حطم وشق وجهه فجاء فحدث بذلك رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فقال: صدقت ذلك من مدد السماء الثالثة.
وجوز بعضهم أن يكون التثبيت بما يلقون إليهم من وعد النصر وما يتقوى به قلوبهم في الجملة، وقوله سبحانه وتعالى: سَأُلْقِي إلخ جملة استئنافية جارية مجرى التعليل لإفادة التثبيت لأنه مصدقه ومبينه لإعانته إياهم على التثبيت، وقوله سبحانه وتعالى: فَاضْرِبُوا إلخ جملة مستعقبة للتثبيت بمعنى لا تقتصروا على تثبيتهم وأمدوهم بالقتال عقيبه من غير تراخ، وكأن المعنى أني معكم فيما آمركم به فثبتوا واضربوا. وجيء بالفاء للنكتة المذكورة، ووسط سَأُلْقِي تصديقا للتثبيت وتمهيدا للأمر بعده، وعلى الاحتمالين تكون الآية دليلا لمن قال: إن الملائكة قاتلت يوم بدر، وقال آخرون: التثبيت بغير المقاتلة، وقوله عزّ وجلّ: سَأُلْقِي تلقين منه تعالى للملائكة على إضمار القول على أنه تفسير للتثبيت أو استئناف بياني، والخطاب في فَاضْرِبُوا للمؤمنين صادرا من الملائكة حكاه الله تعالى لنا، وجوز أن يكون ذلك الكلام من جملة الملقن داخلا تحت القول، كأنه قيل: قولوا لهم قولي سَأُلْقِي


الصفحة التالية
Icon