فافترقا قائلا وموطنا وحكما، بل الجواب أن أهل الحق لا ينكرون توجه اللائمة عليهم وأن الله تعالى مقدس عن ذلك وحجته البالغة وقضاؤه سبحانه الحق، حيث أثبتوا للعبد القدرة الكاسبة التي يدور عليها فلك التكليف وجعلوا لها مدخلا في ذلك فإنه سبحانه إنما يخلق أفعاله حسبما يختاره، وسلبهم التأثير الذاتي عن قدرته لا ينفي اللوم عنهم كما بين في محله، وما ذكره من أنه لو كان الأمر إلى آخره مبني على عدم الفرق بين مذهب أهل الحق الملقبين عنده بالمجبرة وبين مسلك المجبرة في الحقيقة والفرق مثل الصبح ظاهر، هذا واستدل بظاهر الآية على أن الشيطان لا قدرة له على تصريع الإنسان أو تعويج أعضائه وجوارحه أو على إزالة عقله لأنه نفي أن يكون له تسلط إلا بالوسوسة.
وأجاب من زعم القدرة على نحو ذلك بأن المقصود في الآية نفي أن يكون له تسلط في أمر الإضلال إلا بمحض الوسوسة لا نفي أن يكون له تسلط أصلا والسياق أدل قرينة على ذلك. وانتزع بعضهم من الآية ابطال التقليد في الاعتقاد، قال ابن الفرس: وهو انتزاع حسن لأنهم اتبعوا الشيطان بمجرد دعواه ولم يطلبوا منه برهانا فحكى ذلك عنهم متضمنا لذمهم، ثم الظاهر أن هذه الدعوة من الشيطان- أعني إبليس- بلا واسطة، وهي إن كانت في وقت واحد لمتعددين مما يعسر تصوره، ولا يبعد أن يقال: إن له أعوانا يفعلون كما يفعل لكن لما كان ذلك بأمره تصدى وحده لما تصدى ونسبت الدعوة إليه، وللإمام الرازي في الآية كلام طويل ساقه لبيان كيفية الدعوة وإلقاء الشيطان الوسوسة في قلب الإنسان، وأكثره عند المحدثين والسلف الصالحين أشبه شيء بوساوس الشياطين، ولعل النوبة تفضي إن شاء الله تعالى إلى تحقيق ذلك بعون الله تعالى القادر المالك ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ أي بمغيثكم مما أنتم فيه من العذاب، يقال: استصرخني فأصرخته أي استغاثني فأغثته، وأصله من الصراخ وهو مد الصوت، والهمزة للسلب كأن المغيث يزيل صراخ المستغيث. وَما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ مما أنا فيه، وفي تعرضه لذلك مع أنه لم يكن في حيز الاحتمال مبالغة في بيان عدم إصراخه إياهم وإيذان بأنه أيضا مبتلى بمثل ما ابتلوا به ومحتاج إلى الاصراخ فكيف له بإصراخ الغير ولذلك آثار الجملة الاسمية، والمراد استمرار النفي لا نفي الاستمرار، وكذا يقال في التأكيد فكان ما مضى جوابا منه عن توبيخهم وتقريعهم وهذا جواب استغاثتهم واستعانتهم به في دفع ما دهمهم من العذاب. وقرأ يحيى بن وثاب.
والأعمش. وحمزة «بمصرخي» بكسر الياء على الأصل في التخلص من التقاء الساكنين، وذلك أن الأصل بمصرخين لي فاضيف وحذفت نون الجمع للإضافة فالتقت ياء الجمع الساكنة وياء المتكلم والأصل فيها السكون فكسرت لالتقاء الساكنين وأدغمت. وطعن في هذه القراءة كثير من النحاة، قال الفراء: لعلها من زعم القراء فإنه قل من سلم منهم من الوهم. وقال أبو عبيد: نراهم غلطوا. وقال الأخفش: ما سمعت هذا الكسر من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين، وقال الزجاج: إنها عند الجميع رديئة مرذولة ولا وجه لها إلا وجيه ضعيف. وقال الزمخشري: هي ضعيفة، واستشهدوا لها ببيت مجهول:

قال لها هل لك يا تافيّ قالت له ما أنت بالمرضيّ (١)
وكأنهم قدروا ياء الإضافة ساكنة فحركوها بالكسر لما عليه أصل التقاء الساكنين، ولكنه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلا مفتوحة حيث قبلها ألف نحو عصاي فما بالها وقبلها ياء والقول بأنه جرت الياء الأولى مجرى الحرف الصحيح لأجل الإدغام فكأنها ياء وقعت ساكنة بعد حرف صحيح ساكن فحركت بالكسر على الأصل ذهاب إلى القياس وهو قياس حسن، ولكن الاستعمال المستفيض الذي هو بمنزلة الخبر المتواتر تتضاءل إليه القياسات اه.
(١) وقبله: أقبل في ثوب معافري. عند اختلاط الليل والعشي. ماض إذا ما هم بالمضي اه منه.


الصفحة التالية
Icon