ثم آخر ففسق وهكذا كثر الفساد وتوالى الكفر ونزل بهم العذاب على الآخر من ملوكهم فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ
أي كلمة العذاب السابق بحوله أو بظهور معاصيهم أو بانهماكهم فيها فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً
لا يكتنه كنهه ولا يوصف، والتدمير هو الإهلاك مع طمس الأثر وهدم البناء، والآية تدل على إهلاك أهل القرية على أتم وجه وإهلاك جميعهم لصدور الفسق منهم جميعا فإن غير المترف يتبعه عادة لا سيما إذا كان المترف من علماء السوء، ومن هنا قيل: المعنى وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها واتبعهم غيرهم فحق عليها القول الآية، وقيل: هلاك الجميع لا يتوقف على التبعية فقد قال سبحانه: وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً [الأنفال: ٢٥]
وصح عن أم المؤمنين زينب بنت جحش «أن النبي صلّى الله عليه وسلّم دخل عليها فدعا يقول لا إله إلا الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذه وحلق بإصبعيه الإبهام والتي تليها قالت زينب: قلت يا رسول الله أنهلك وفينا الصالحون قال:
نعم إذا كثر الخبث»

هذا والظاهر أن أَمَرْنا
جواب إذا ولا تقديم ولا تأخير في الآية والإشكال المشهور فيها على هذا التقدير من أنها تدل على أنه سبحانه يريد إهلاك قوم ابتداء فيتوسل إليه بأن يأمرهم فيفسقون فيهلكهم وإرادة ضرر الغير ابتداء من غير استحقاق الإضرار كالاضرار كذلك مما ينزه عنه تعالى لمنافاته للحكمة قد مرت الإشارة إلى جوابه، وأجاب عنه بعضهم بأن في الآية تقديما وتأخيرا والأصل إذا أمرنا مترفي قرية ففسقوا فيها أردنا إهلاكها فحق عليها القول، ونظيره على ما قيل قوله تعالى: وَإِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ [النساء:
١٠٢] وآخرون بأن قوله تعالى: أَمَرْنا
إلخ في موضع الصفة لقرية وجواب إذا محذوف للاستغناء عنه بما في الكلام من الدلالة عليه كما قيل في قوله تعالى: حَتَّى إِذا جاؤُها وَفُتِحَتْ أَبْوابُها إلى قوله سبحانه: وَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ [الزمر: ٧١- ٤٧] وقول الهذلي وهو آخر قصيدة:

حتى إذا أسلكوهم في قتائدة (١) شلا كما تطرد الجمالة الشردا
وقيل في الجواب عن ذلك غير ذلك فتدبر.
وَكَمْ أَهْلَكْنا أي كثيرا ما أهلكنا مِنَ الْقُرُونِ تمييز- لكم- والقرن على ما قال الراغب القوم المقترنون في زمان واحد، وعن عبد الله بن أبي أوفى هو مدة مائة وعشرين سنة، وعن محمد بن القاسم المازني
وروي مرفوعا أنه مائة سنة
وجاء أنه صلّى الله عليه وسلّم دعا لرجل فقال: عش قرنا فعاش مائة سنة أو مائة وعشرين
، وعن الكلبي أنه ثمانون سنة، وعن ابن سيرين أنه أربعون سنة مِنْ بَعْدِ نُوحٍ من بعد زمنه عليه السلام كعاد وثمود ومن بعدهم ممن قصت أحوالهم في القرآن العظيم ومن لم تقص، وخص نوح عليه السلام بالذكر ولم يقل من بعد آدم لأنه أول رسول آذاه قومه فاستأصلهم العذاب ففيه تهديد وإنذار للمشركين ولظهور حال قومه لم ينظموا في القرون المهلكة على أن ذكره عليه السلام رمز إلى ذكرهم، ومن الأولى للتبيين لا زائدة والثانية لابتداء الغاية فلذا جاز اتحاد متعلقهما، وقال الحوفي: من الثانية بدل من الأولى وليس بجيد.
وَكَفى بِرَبِّكَ أي كفى ربك وقد تقدم الكلام مفصلا آنفا في مثل هذا التركيب بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً محيطا بظواهرها وبواطنها فيعاقب عليها، وتقديم الخبير لتقدم متعلقه من الاعتقادات والنيات التي هي مبادئ الأعمال الظاهرة تقدما وجوديا، وقيل تقدما رتبيا لأن العبرة بما في القلب كما يدل عليه
«إن الله تعالى لا ينظر إلى صوركم وأعمالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم ونياتكم»
وإنما الأعمال بالنيات ونية المؤمن خير من عمله إلى غير ذلك أو
(١) قتائدة اسم عقبة اه صحاح.


الصفحة التالية
Icon