ورد بعضهم بالآية على القائلين: إن حد زنا البكر بالبكر جلد مائة وتغريب سنة وهم الإمام الشافعي والإمام أحمد والثوري والحسن بن صالح، ووجه الرد أن قوله تعالى: الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي إلخ شروع في بيان حكم الزنا ما هو فكان المذكور تمام حكمه وإلا كان تجهيلا لا بيانا وتفصيلا إذ يفهم منه أنه تمام وليس بتمام في الواقع فكان مع الشروع في البيان أبعد من البيان، لأنه أوقع في الجهل المركب وقبله كان الجهل بسيطا فيفهم بمقتضى ذلك أن حد الزانية والزاني ليس إلا الجلد، وأخصر من هذا أن المقام مقام البيان فالسكوت فيه يفيد الحصر، وقال المخالف: لو سلمنا الدلالة على الحصر وأن المذكور تمام الحكم ليكون المعنى أن حد كل ليس إلا الجلد فذلك منسوخ بما صح من
رواية عبادة بن الصامت عنه صلّى الله عليه وسلّم «البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام»
وأجيب بأنه بعد التسليم لا تصح دعوى النسخ بما ذكر لأنه خبر الواحد وعندنا لا يجوز نسخ الكتاب به والقول بأن الخبر المذكور قد تلقته الأمة بالقبول لا يجدي نفعا لأنه إن أريد بتلقيه بالقبول إجماعهم على العمل به فممنوع،
فقد صح عن عليّ كرم الله تعالى وجهه أنه لا يقول بتغريبهما وقال: حسبهما من الفتنة أن ينفيا
، وفي رواية كفى بالنفي فتنة، وإن أريد إجماعهم على صحته بمعنى صحة سنده فكثير من أخبار الآحاد كذلك ولم تخرج بذلك عن كونها آحادا، على أنه ليس فيه أكثر من كون التغريب واجبا ولا يدل على أنه واجب بطريق الحد بل ما
في صحيح البخاري من قول أبي هريرة: إن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قضى فيمن زنى ولم يحصن بنفي عام وإقامة الحد
ظاهر في أن النفي ليس من الحد لعطفه عليه، وكونه استعمل الحد في جزء مسماه وعطف على الجزء الآخر بعيد فجاز كونه تعزيرا لمصلحة، وقد يغرب الإمام لمصلحة يراها في غير ما ذكر كما صح أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه غرب نصر بن حجاج إلى البصرة بسبب أنه لجماله افتتن بعض النساء به فسمع قائلة يقال: إنها أم الحجاج الثقفي ولذا قال له عبد الملك يوما يا ابن المتمنية تقول:

هل من سبيل إلى خمر فأشربها أو هل سبيل إلى نصر بن حجاج
إلى فتى ماجد الأعراق (١) مقتبل سهل المحيا كريم غير ملجاج
والقول بأنه لا يجتمع التعزير مع الحد لا يخفى ما فيه، وادعى الفقيه المرغيناني أن الخبر المذكور منسوخ فإن شطره الثاني الدال على الجمع بين الجلد والرجم منسوخ كما علمت، وفيه أنه لا لزوم فيجوز أن تروى جمل نسخ بعضها وبعضها لم ينسخ، نعم ربما يكون نسخ أحد الشطرين مسهلا لتطرق احتمال نسخ الشطر الآخر فيكون هذا الاحتمال قائما فيما نحن فيه فيضعف عن درجة الآحاد التي لم يتطرق ذلك الاحتمال إليها فيكون أحرى أن لا ينسخ ما أفاده الكتاب من أن الحد هو الجلد لا غير على ما سمعت تقريره فتأمل.
ثم إن التغريب ليس مخصوصا بالرجل عند أولئك الأئمة فقد قالوا: تغرب المرأة مع محرم وأجرته عليها في قول وفي بيت المال في آخر، ولو امتنع ففي قول يجبره الإمام وفي آخر لا، ولو كانت الطريق آمنة ففي تغريبها بلا محرم قولان، وعند مالك والأوزاعي إنما ينفى الرجل ولا تنفى المرأة
لقوله عليه الصلاة والسلام: «البكر بالبكر»
إلخ، وقال غيرهما ممن تقدم: إن الحديث يجب أن يشملها فإن أوله
«خذوا عني قد جعل الله تعالى لهن سبيلا البكر بالبكر»
إلخ وهو نص على أن النفي والجلد سبيل للنساء والبكر يقال: على الأنثى ألا ترى إلى
قوله عليه الصلاة والسلام: «البكر تستأذن»
ومع قطع النظر عن كل ذلك قد يقال: إن هذا من المواضع التي تثبت الأحكام فيه في النساء بالنصوص المفيدة إياها للرجال بتنقيح المناط، هذا ثم لا يخفى أن الظاهر من الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي ما يشمل الرقيق وغيره فيكون
(١) هو الذي لم يظهر فيه أثر كبر انتهى منه.


الصفحة التالية
Icon