العذاب وشجون العقاب للإشعار بأن مجرد اقتراب الحساب الذي هو من مبادي العذاب ومقدماته كاف في التحذير عما هم عليه من الإنكار وواف بالردع عما هم عليه من العلو والاستكبار فكيف الحال في نفس العذاب والنكال.
وذكر شيخ الإسلام مولانا أبو السعود عليه الرحمة أن إسناد ذلك إلى الحساب لا إلى الساعة لانسياق الكلام إلى بيان غفلتهم عنه وإعراضهم عما يذكرهم إياه وفيه ما فيه، ثم الوجه اللائح في النظر الجليل لإسناد الاقتراب إلى الحساب دون الناس مع جواز العكس هو أن الاقتراب إذا حصل بين شيئين يسند إلى ما هو مقبل على الآخر متحرك ومتوجه إلى جهته حقيقة أو حكما حتى أنه لو كان كل منهما متوجها إلى الآخر يصح إلى كل منهما، وقد سمعت أن المراد من اقتراب الحساب اقتراب زمانه، وقد صرح به أجلة المفسرين، وأنت خبير بأن الشائع المستفيض اعتبار الوجه والإتيان من الزمان إلى ذي الزمان لا بالعكس فلذلك يوصف الزمان بالمضي والاستقبال فكان الجدير أن يسند الاقتراب إلى زمان الحساب ويجعل الناس مدنو إليهم.
وذكر شيخ الإسلام أن في هذا الإسناد من تفخيم شأن المسند إليه وتهويل أمره ما لا يخفى لما فيه من تصوير ذلك بصورة شيء مقبل عليهم لا يزال يطلبهم فيصيبهم لا محالة انتهى، وهو معنى زائد على ما ذكرنا لا يخفى لطفه على الناقد البصير والألمعي الخبير، والمراد من اقتراب ذلك من الناس على ما اختاره الشيخ قدس سره دنوه منهم بعد بعده عنهم فإنه في كل ساعة يكون أقرب إليهم منه في الساعة السابقة، واعترض قول الزمخشري المراد من ذلك كون الباقي من مدة الدنيا أقل وأقصر مما مضى منها فإنه كصبابة الإناء ودردي الوعاء بأنه لا تعلق له بما نحن فيه من الاقتراب المستفاد من صيغة الماضي ولا حاجة إليه في تحقيق معناه. نعم قد يفهم منه عرفا كونه قريبا في نفسه أيضا فيصار حينئذ إلى هذا التوجيه وتعقبه بعض الأفاضل بأن القول بعدم التعلق بالاقتراب المستفاد من صيغة الماضي خارج عن دائرة الانصاف فإنه إن أراد أنه لا تعلق له بالحدوث المستفاد منها فلا وجه له إذ الاقتراب بالمعنى المذكور أمر حدث بمضي الأكثر من مدة الدنيا وإن أراد أنه لا تعلق له بالمضي المستفاد منها فلا وجه له أيضا إذ الدلائل دلت على حصول هذا الاقتراب حين مبعث النبي صلّى الله عليه وسلّم الموعود في آخر الزمان المتقدم على نزول الآية.
ثم قال: فليت شعري ما معنى عدم تعلقه بما نحن فيه بل ربما يمكن أن يدعي عدم المناسبة في المعنى الذي اختاره نفسه فإن الاقتراب بذلك المعنى مستمر من أول بدء الدنيا إلى يوم نزول الآية بل إلى ما بعد فالذي يناسبه هو الصيغة المنبئة عن الاستمرار والدوام، ثم لا يخفى على أصحاب الأفهام أن هذا المعنى الذي اعترضه أنسب بما هو مقتضى المقام من إخافة الكفرة اللئام المرتابين في أمر القيام لما فيه من بيان قربه الواقع في نفس الأمر!. فتدبر، وقيل المراد اقتراب ذلك عند الله تعالى، وتعقب بأنه لا عند الله عز وجل إذ لا نسبة للكائنات إليه عز وجل بالقرب والبعد.
ورد بأنه غفلة أو تغافل عن المراد فإن المراد من عند الله في علمه الأزلي أو في حكمه وتقديره ولا الدنو والاقتراب المعروف، وعلى هذا يكون المراد من القرب تحققه في علمه تعالى أو تقديره.
وقال بعض الأفاضل: ليس المراد من كون القرب عند الله تعالى نسبته إليه سبحانه بأن يجعل هو عز وجل مدنوا منه ومقربا إليه تعالى عن ذلك علوا كبيرا بل المراد قرب الحساب للناس عند الله تعالى، وحاصله أنه تعالى شأنه لبلوغ تأنيه إلى حد الكمال يستقصر المدد الطوال فيكون الحساب قريبا من الناس عند جنابه المتعال وإن كان بينه وبينهم أعوام وأحوال، وعلى هذا يحمل قوله تعالى: يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَنَراهُ قَرِيباً [المعارج: ٦، ٧] وهذا المعنى يفيد وراء إفادته تحقق الثبوت لا محالة أن المدة الباقية بينهم وبين الحساب شيء قليل في الحقيقة وما عليه الناس من استطالته


الصفحة التالية
Icon