ثم يفصل عصيانهم في ثلاث آيات متصلات، وأخيرا يأتي تفصيل العذاب الذي يستحقه قوم نوح فـ:
﴿مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا﴾ "٢٥".
وهكذا يعمد القرآن الكريم إلى فن الوصل، ليعرض ما يعرض من صور فنية، فهو لا يفجؤ المخاطب بلب الموضوع ويتركه، بل يعرض عليه الأجزاء، أو الصور الجزئية ليعيها ذهنه ويعيش فيها وجدانه ويستثار بها خياله، ويظل يتنقل من جزء إلى جزء، ومن جانب إلى جانب إلى أن يصل إلى قمة الحدث، وحين يصل المخاطب إليه يكون قد زود به على مراحل.
وتارة يعرض القرآن للحدث العام مرة واحدة بإيجاز وتركيز ثم ينتقل منه المخاطب إلى أجزائه -وهو مزود بجوهر الموضوع- ويظل يضيف إليه جزءا جزءا وكأنه يعيده في قطع صغيرة إلى أن تنتهي الأجزاء وينتهي معها عرض الموضوع الرئيسي الذي قدم في مطلع العرض، وقد تبلور واتضح وتكامل في نضوج وجمال.
ويأتي دور الفصل، الذي يقوم بعرض الموضوع كاملا مرة ثم يعود يعرضه بشكل ثان وثالث، وكلها هي هي، ولكنها لها غرض فني لا يقوم به إلا فن الفصل.
وهذا غير التكرار، فتكرار الصياغة في قوله تعالى: ﴿وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ، ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ﴾ ١ له غرض بلاغي غير الغرض الذي من أجله يعرض الموضوع بأشكال متعددة، في مثل قوله تعالى: ﴿قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ، مَلِكِ النَّاسِ، إِلَهِ النَّاسِ﴾ ٢ فرب الناس سبحانه، هو ملك الناس، هو إله الناس، هو المستعاذ به من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور
٢ الناس: ١-٣.