يُبَشِّرُنِي الْغُرَابُ بِبَيْنِ أَهْلِي فَقُلْتُ لَهُ ثُكِلْتُكَ مِنْ بَشِيرِ
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ إِطْلَاقَ الْبِشَارَةِ عَلَى الْإِخْبَارِ بِمَا يَسُوءُ، أُسْلُوبٌ مِنْ أَسَالِيبِ اللُّغَةِ الْعَرَبِيَّةِ، وَمَعْلُومٌ أَنَّ عُلَمَاءَ الْبَلَاغَةِ يَجْعَلُونَ مِثْلَ ذَلِكَ مَجَازًا، وَيُسَمُّونَهُ اسْتِعَارَةً عِنَادِيَّةً، وَيُقَسِّمُونَهَا إِلَى تَهَكُّمِيَّةٍ وَتَلْمِيحِيَّةٍ كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ فِي مَحِلِّهِ.
وَقَوْلُهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ [١٨ ٢] بَيَّنَتِ الْمُرَادَ بِهِ آيَاتٌ أُخَرُ، فَدَلَّتْ عَلَى أَنَّ الْعَمَلَ لَا يَكُونُ صَالِحًا إِلَّا بِثَلَاثَةِ أُمُورٍ:
الْأَوَّلُ: أَنْ يَكُونَ مُطَابِقًا لِمَا جَاءَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَكُلُّ عَمَلٍ مُخَالِفٍ لِمَا جَاءَ بِهِ صَلَوَاتُ اللَّهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِ فَلَيْسَ بِصَالِحٍ، بَلْ هُوَ بَاطِلٌ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ الْآيَةَ [٥٩ ٧]، وَقَالَ: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ [٤ ١٠]، وَقَالَ: قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ الْآيَةَ [٣ ٣١]، وَقَالَ: أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ الْآيَةَ [٤٢ ٢١]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ الْعَامِلُ مُخْلِصًا فِي عَمَلِهِ لِلَّهِ فِيمَا بَيْنَهُ وَبَيْنَ اللَّهِ، قَالَ تَعَالَى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْآيَةَ [٩٨ ٥]، وَقَالَ: قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ [٣٩ ١١ - ١٥]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ.
الثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ الْعَمَلُ مَبْنِيًّا عَلَى أَسَاسِ الْإِيمَانِ وَالْعَقِيدَةِ الصَّحِيحَةِ ; لِأَنَّ الْعَمَلَ كَالسَّقْفِ، وَالْعَقِيدَةَ كَالْأَسَاسِ، قَالَ تَعَالَى: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ الْآيَةَ [١٦ ٩٧]، فَجَعَلَ الْإِيمَانَ قَيْدًا فِي ذَلِكَ.
وَبَيَّنَ مَفْهُومَ هَذَا الْقَيْدِ فِي آيَاتٍ كَثِيرَةٍ، كَقَوْلِهِ فِي أَعْمَالِ غَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ: وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا [٢٥ ٢٣]، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ الْآيَةَ [٢٤ ٣٩]، وَقَوْلِهِ: أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ الْآيَةَ [١٤ ١٨]، إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ كَمَا تَقَدَّمَ إِيضَاحُهُ.
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ مُفْرَدَ الصَّالِحَاتِ فِي قَوْلِهِ: يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ، وَقَوْلِهِ:


الصفحة التالية
Icon