عِمْرَانَ» : قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ [٣ ٤١] ; لِأَنَّ الرَّمْزَ: الْإِشَارَةُ وَالْإِيمَاءُ بِالشَّفَتَيْنِ وَالْحَاجِبِ، وَالْإِيحَاءُ فِي قَوْلِهِ: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ، قَالَ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ: هُوَ الْإِشَارَةُ وَهُوَ الْأَظْهَرُ بِدَلِيلِ قَوْلِهِ «إِلَّا رَمْزًا» كَمَا تَقَدَّمَ آنِفًا، وَمِمَّنْ قَالَ بِأَنَّ الْوَحْيَ فِي الْآيَةِ الْإِشَارَةُ: قَتَادَةُ، وَالْكَلْبِيُّ، وَابْنُ مُنَبِّهٍ، وَالْعُتْبِيُّ، كَمَا نَقَلَهُ عَنْهُمُ الْقُرْطُبِيُّ وَغَيْرُهُ، وَعَنْ مُجَاهِدٍ، وَالسُّدِّيِّ «فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ»، أَيْ: كَتَبَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ، وَعَنْ عِكْرِمَةَ: كَتَبَ لَهُمْ فِي كِتَابٍ، وَالْوَحْيُ فِي لُغَةِ الْعَرَبِ يُطْلَقُ عَلَى كُلِّ إِلْقَاءٍ فِي سُرْعَةٍ وَخَفَاءٍ، وَلِذَلِكَ أَطْلَقَ عَلَى الْإِلْهَامِ، كَمَا فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ الْآيَةَ [١٦ ٦٨]، وَعَلَى الْإِشَارَةِ كَمَا هُوَ الظَّاهِرُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا الْآيَةَ [١٩ ١١]، وَيُطْلَقُ عَلَى الْكِتَابَةِ كَمَا هُوَ الْقَوْلُ الْآخَرُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ، وَإِطْلَاقُ الْوَحْيِ عَلَى الْكِتَابَةِ مَشْهُورٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ فِي مُعَلَّقَتِهِ:

فَمَدَافِعُ الرَّيَّانِ عُرِّيَ رَسْمُهَا خَلَقًا كَمَا ضَمِنَ الْوُحِيُّ سِلَامُهَا
فَقَوْلُهُ «الْوُحِيُّ» بِضَمِّ الْوَاوِ وَكَسْرِ الْحَاءِ وَتَشْدِيدِ الْيَاءِ، جَمْعُ وَحَيٍ بِمَعْنَى الْكِتَابَةِ.
وَقَوْلُ عَنْتَرَةَ:
كَوَحْيِ صَحَائِفَ مِنْ عَهْدِ كِسْرَى فَأَهْدَاهَا لِأَعْجَمَ طِمْطِمِي
وَقَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
سِوَى الْأَرْبَعِ الدُّهْمِ اللَّوَاتِي كَأَنَّهَا بَقِيَّةٌ وُحِيٍّ فِي وَنِّ الصَّحَائِفِ
وَقَوْلُ جَرِيرٍ:
كَأَنَّ أَخَا الْكِتَابِ يَخُطُّ وَحَيًا بِكَافٍ فِي مَنَازِلِهَا وَلَامِ
قَوْلُهُ تَعَالَى: فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا.
ذَكَرَ جَلَّ وَعَلَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ: أَنَّ زَكَرِيَّا خَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَشَارَ إِلَيْهِمْ، أَوْ كَتَبَ لَهُمْ: أَنْ سَبِّحُوا اللَّهَ أَوَّلَ النَّهَارِ وَآخِرَهُ، فَالْبُكْرَةُ أَوَّلُ النَّهَارِ، وَالْعَشِيُّ آخِرُهُ، وَقَدْ بَيَّنَ تَعَالَى فِي «آلِ عِمْرَانَ» أَنَّ هَذَا الَّذِي أَمَرَ بِهِ زَكَرِيَّا قَوْمَهُ بِالْإِشَارَةِ أَوِ الْكِتَابَةِ مِنَ التَّسْبِيحِ بُكْرَةً وَعَشِيًّا أَنَّ اللَّهَ أَمَرَ زَكَرِيَّاءَ بِهِ أَيْضًا، وَذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ [٣ ٤١]، وَالظَّاهِرُ أَنَّ هَذَا الْمِحْرَابَ الَّذِي خَرَجَ مِنْهُ عَلَى قَوْمِهِ هُوَ الْمِحْرَابُ الَّذِي بُشِّرَ بِالْوَلَدِ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِيهِ الْمَذْكُورُ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى:


الصفحة التالية
Icon