الْمُخَلَّقَةِ وَغَيْرِ الْمُخَلَّقَةِ: يُخْلَقُ مِنْهُ بَعْضُ الْمُخَاطَبِينَ فِي قَوْلِهِ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ الْآيَةَ.
وَبِذَلِكَ تَعْلَمُ أَنَّ أَوْلَى الْأَقْوَالِ فِي الْآيَةِ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي لَا تَنَاقُضَ فِيهِ ; لِأَنَّ الْقُرْآنَ أُنْزِلَ لِيُصَدِّقَ بَعْضُهُ بَعْضًا، لَا لِيَتَنَاقَضَ بَعْضُهُ مَعَ بَعْضٍ، وَذَلِكَ هُوَ الْقَوْلُ الَّذِي قَدَّمْنَا عَنْ قَتَادَةَ وَالضَّحَّاكِ، وَقَدِ اقْتَصَرَ عَلَيْهِ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ، وَلَمْ يَحْكِ غَيْرَهُ.
وَهُوَ أَنَّ الْمُخَلَّقَةَ هِيَ التَّامَّةُ، وَغَيْرَ الْمُخَلَّقَةِ هِيَ غَيْرُ التَّامَّةِ.
قَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي الْكَشَّافِ: وَالْمُخَلَّقَةُ الْمُسَوَّاةُ الْمَلْسَاءُ مِنَ النُّقْصَانِ وَالْعَيْبِ، يُقَالُ: خَلَقَ السِّوَاكَ وَالْعُودَ: إِذَا سَوَّاهُ وَمَلَّسَهُ. مِنْ قَوْلِهِمْ: صَخْرَةٌ خَلْقَاءُ: إِذَا كَانَتْ مَلْسَاءَ، كَأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَخْلُقُ الْمُضَغَ مُتَفَاوِتَةً ; مِنْهَا مَا هُوَ كَامِلُ الْخِلْقَةِ أَمْلَسُ مِنَ الْعُيُوبِ، وَمِنْهَا مَا هُوَ عَلَى عَكْسِ ذَلِكَ، فَيَتْبَعُ ذَلِكَ التَّفَاوُتَ تَفَاوُتُ النَّاسِ فِي خَلْقِهِمْ وَصُوَرِهِمْ وَطُولِهِمْ وَقِصَرِهِمْ وَتَمَامِهِمْ وَنُقْصَانِهِمْ. انْتَهَى مِنْهُ.
وَهَذَا الْمَعْنَى الَّذِي ذَكَرَهُ الزَّمَخْشَرِيُّ مَعْرُوفٌ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ، تَقُولُ الْعَرَبُ: حَجَرٌ أَخْلَقُ؛ أَيْ: أَمْلَسُ مُصْمَتٌ لَا يُؤَثِّرُ فِيهِ شَيْءٌ، وَصَخْرَةٌ خَلْقَاءُ بَيِّنَةُ الْخَلْقِ؛ أَيْ: لَيْسَ فِيهَا وَصْمٌ، وَلَا كَسْرٌ، وَمِنْهُ قَوْلُ الْأَعْشَى:

قد يَتْرُكُ الدهْرُ في خَلْقَاءَ رَاسِيةٍ وَهْيًا ويُنْزِلُ مِنْهَا الْأَعْصَمَ الصَّدَعَا
وَ «الدَّهْرُ» فِي الْبَيْتِ فَاعِلُ «يَتْرُكُ» وَالْمَفْعُولُ بِهِ: وَهْيًا. يَعْنِي: أَنَّ صَرْفَ الدَّهْرِ قَدْ يُؤَثِّرُ فِي الْحِجَارَةِ الصُّمِّ السَّالِمَةِ مِنَ الْكَسْرِ وَالْوَصْمِ، فَيَكْسِرُهَا وَيُوهِيهَا، وَيُؤَثِّرُ فِي الْعَصْمِ مِنَ الْأَوْعَالِ بِرُءُوسِ الْجِبَالِ، فَيُنْزِلُهَا مِنْ مَعَاقِلِهَا، وَمِنْ ذَلِكَ أَيْضًا قَوْلُ ابْنِ أَحْمَرَ يَصِفُ فَرَسًا، وَقَدْ أَنْشَدَهُ صَاحِبُ اللِّسَانِ لِلْمَعْنَى الْمَذْكُورِ:
بِمُقَلِّصٍ دَرْكِ الطَّرِيدَةِ مَتْنُهُ كَصَفَا الْخَلِيقةِ بِالْفَضاءِ الْمُلْبِدِ
فَقَوْلُهُ: كَصَفَا الْخَلِيقَةِ، يَعْنِي: أَنَّ مَتْنَ الْفَرَسِ الْمَذْكُورِ كَالصَّخْرَةِ الْمَلْسَاءِ الَّتِي لَا كَسْرَ فِيهَا وَلَا وَصْمَ، وَهُوَ مِنْ إِضَافَةِ الْمَوْصُوفِ إِلَى صِفَتِهِ. وَالسَّهْمُ الْمُخَلَّقُ: هُوَ الْأَمْلَسُ الْمُسْتَوِي.
قَالَ مُقَيِّدُهُ - عَفَا اللَّه عَنْهُ وَغَفَرَ لَهُ -: وَهَذَا الْقَوْلُ هُوَ أَوْلَى الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ - فِيمَا يَظْهَرُ لِي - لِجَرَيَانِهِ عَلَى اللُّغَةِ الَّتِي نَزَلَ بِهَا الْقُرْآنُ، وَسَلَامَتِهِ مِنَ التَّنَاقُضِ، وَاللَّهُ جَلَّ وَعَلَا أَعْلَمُ.


الصفحة التالية
Icon