وَلَكِنَّهُ لَمْ يَشْفِ مَا فِي نَفْسِي عَلَى مَا تَعَوَّدْتُ، وَلَمْ يَرْوِ لِي ظَمَئِي. وَقُمْتُ مِنْ عِنْدِهِ وَأَنَا أَجِدُنِي فِي حَاجَةٍ إِلَى إِزَالَةِ بَعْضِ اللَّبْسِ وَإِيضَاحِ بَعْضِ الْمُشْكِلِ وَكَانَ الْوَقْتُ ظُهْرًا فَأَخَذْتُ الْكُتُبَ وَالْمَرَاجِعَ فَطَالَعْتُ حَتَّى الْعَصْرِ، فَلَمْ أَفْرَغْ مِنْ حَاجَتِي فَعَاوَدْتُ حَتَّى الْمَغْرِبِ فَلَمْ أَنْتَهِ أَيْضًا، فَأَوْقَدَ لِي خَادِمِي أَعْوَادًا مِنَ الْحَطَبِ أَقْرَأُ عَلَى ضَوْئِهَا كَعَادَةِ الطُّلَّابِ، وَوَاصَلْتُ الْمُطَالَعَةَ وَأَتَنَاوَلُ الشَّاهِيَ الْأَخْضَرَ كُلَّمَا مَلِلْتُ أَوْ كَسِلْتُ وَالْخَادِمُ بِجِوَارِي يُوقِدُ الضَّوْءَ حَتَّى انْبَثَقَ الْفَجْرُ وَأَنَا فِي مَجْلِسِي لَمْ أَقُمْ إِلَّا لِصَلَاةِ فَرْضٍ أَوْ تَنَاوُلِ طَعَامٍ وَإِلَى أَنِ ارْتَفَعَ النَّهَارُ وَقَدْ فَرَغْتُ مِنْ دَرْسِي وَزَالَ عَنِّي لَبْسِي، وَوَجَدْتُ هَذَا الْمَحَلَّ مِنَ الدَّرْسِ كَغَيْرِهِ فِي الْوُضُوحِ وَالْفَهْمِ فَتَرَكْتُ الْمُطَالَعَةَ وَنِمْتُ، وَأَوْصَيْتُ خَادِمِي أَنْ لَا يُوقِظَنِي لِدَرْسِي فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ اكْتِفَاءً بِمَا حَصَلْتُ عَلَيْهِ وَاسْتِرَاحَةً مِنْ عَنَاءِ سَهَرِ الْبَارِحَةِ.

فَقَدْ بَاتَ مُفَكِّرًا فِيهَا فَأَضْحَتْ لِفَهْمِ الْفَدْمِ خَافِضَةَ الْجَنَاحِ
وَإِنَّ هَذَا لَدَرْسٌ لِأَبْنَائِهِ وَمَنْهَجٌ لِطُلَّابِ الْعِلْمِ فِي الصَّبْرِ وَالدَّأْبِ وَالْمُثَابَرَةِ. وَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِهَذِهِ الْحَادِثَةِ فِي دِرَاسَتِي وَتَدْرِيسِي وَخَاصَّةً فِي صُورَةٍ مُشَابِهَةٍ فِي الْفَرَائِضِ لَمْ أَكُنْ دَرَسْتُهَا عَلَى أَحَدٍ وَكَانَ الِاخْتِبَارُ فِي الْمَقْرُوءِ لَا فِي الْمُقَرَّرِ.
وَتِلْكَ هِيَ آفَةُ الدِّرَاسَةِ النِّظَامِيَّةِ الْيَوْمَ وَكُنْتُ كُلَّمَا ضَجِرْتُ فِي تَحْقِيقِهَا، تَذَكَّرْتُ قِصَّتَهُ رَحِمَهُ اللَّهُ فَصَبَرْتُ حَتَّى حَصَّلْتُهَا وَلِلَّهِ الْحَمْدُ وَالْمِنَّةُ. وَكَانَ مِنْ بَعْدِ الظُّهْرِ إِلَى هَزِيعٍ مِنَ اللَّيْلِ. وَلَكِنْ كَمْ كَانَتْ لَذَّتِي وَارْتِيَاحِي.
وَمَعَ هَذِهِ الشَّاعِرِيَّةِ الرَّقْرَاقَةِ وَالْمَعَانِي الْعِذَابِ الْفَيَّاضَةِ وَالْأُسْلُوبِ السَّهْلِ الْجَزْلِ، فَقَدْ كَانَ يَتَبَاعَدُ رَحِمَهُ اللَّهُ عَنْ قَوْلِ الشِّعْرِ مَعَ وَفْرَةِ حِفْظِهِ إِيَّاهُ، وَلَهُ فِي ذَلِكَ أَبْيَاتٌ يَقُولُ فِيهَا:


الصفحة التالية
الموسوعة القرآنية Quranpedia.net - © 2024
Icon
أُنْقِذْتُ مِنْ دَاءِ الْهَوَى بِعِلَاجٍ شَيْبٍ يَزِينُ مُفَارِقِي كَالتَّاجِ
قَدْ صَدَّنِي حِلْمُ الْأَكَابِرِ عَنْ لَمِيِّ شَفَةِ الْفَتَاةِ الطَّفْلَةِ الْمِغْنَاجِ
مَاءُ الشَّبِيبَةِ زَارِعٌ فِي صَدْرِهَا رُمَّانَتَيْ رَوْضٍ كَحُقِّ الْعَاجِ
وَكَأَنَّهَا قَدْ أَدْرَجَتْ فِي بُرْقُعٍ يَا وَيْلَتَاهُ بِهَا شُعَاعَ سِرَاجِ
وَكَأَنَّمَا شَمْسُ الْأَصِيلِ مُذَابَةٌ تَنْسَابُ فَوْقَ جَبِينِهَا الْوَهَّاجِ
يُعْلَى لِمَوْقِعٍ فِي خِدْرِهَا فَوْقَ الْحَشِيَّةِ نَاعِمِ الدِّيبَاجِ
لَمْ يَبْكِ عَيْنِي بَيْنَ حَيٍّ جِيرَةً شَدُّوا الْمَطِيَّ بِأَنْسَعِ الْأَحْدَاجِ