قَضَاءُ الدِّمَاءِ: كَانَ الْحَاكِمُ الْفَرَنْسِيُّ فِي الْبِلَادِ يَقْضِي بِالْقِصَاصِ فِي الْقَتْلِ بَعْدَ مُحَاكَمَةٍ وَمُرَافَعَةٍ وَاسِعَةِ النِّطَاقِ وَبَعْدَ تَمْحِيصِ الْقَضِيَّةِ وَإِنْهَاءِ الْمُرَافَعَةِ وَصُدُورِ الْحُكْمِ يُعْرَضُ عَلَى عَالِمَيْنِ جَلِيلَيْنِ مِنْ عُلَمَاءِ الْبِلَادِ لِيُصَادِقُوا عَلَيْهِ، وَيُسَمَّى الْعَالِمَانِ لَجْنَةَ الدِّمَاءِ وَلَا يُنَفَّذُ حُكْمُ الْإِعْدَامِ فِي الْقِصَاصِ إِلَّا بَعْدَ مُصَادَقَتِهِمَا عَلَيْهِ.
وَقَدْ كَانَ رَحِمَهُ اللَّهُ أَحَدَ أَعْضَاءِ هَذِهِ اللَّجْنَةِ وَلَمْ يَخْرُجْ مِنْ بِلَادِهِ حَتَّى عَلَا قَدْرُهُ وَعَظُمَ تَقْدِيرُهُ، وَكَانَ عَلَمًا مِنْ أَعْلَامِهَا وَمَوْضِعَ ثِقَةِ أَهْلِهَا وَحُكَّامِهَا وَمَحْكُومِهَا.
خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ رَحِمَهُ اللَّهُ: كَانَ خُرُوجُهُ مِنْ بِلَادِهِ لِأَدَاءِ فَرِيضَةِ الْحَجِّ وَعَلَى نِيَّةِ الْعَوْدَةِ وَكَانَ سَفَرُهُ بَرًّا، كَتَبَ فِيهِ رِحْلَةً ضَمَّنَهَا مَبَاحِثَ جَلِيلَةً كَانَ آخِرُهَا مَبْحَثَ الْقَضَايَا الْمُوَجَّهَةِ فِي الْمَنْطِقِ مَعَ عُلَمَاءِ أُمِّ دُرْمَانَ بِالْمَعْهَدِ الْعِلْمِيِّ بِالسُّودَانِ.
وَبَعْدَ وُصُولِهِ إِلَى هَذِهِ الْبِلَادِ تَجَدَّدَتْ نِيَّةُ بَقَائِهِ. وَلَعَلَّ مِنَ الْخَيْرِ وَبَيَانِ الْوِقَاعِ ذِكْرُ سَبَبِ بَقَائِهِ: لَقَدْ كَانَ فِي بِلَادِهِ كَغَيْرِهِ يَسْمَعُ الدِّعَايَةَ ضِدَّ هَذِهِ الْبِلَادِ بِاسْمِ الْوَهَّابِيَّةِ، إِلَّا أَنَّ بَعْضَ الصِّدْقِ قَدْ تَغَيَّرَ مِنْ وِجْهَاتِ النَّظَرِ «وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ أَمْرًا هَيَّأَ لَهُ الْأَسْبَابَ» وَمِنْ عَجِيبِ الصُّدَفِ أَنْ يَنْزِلَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي بَعْضِ مَنَازِلِ الْحَجِّ بِجِوَارِ خَيْمَةِ الْأَمِيرِ خَالِدِ السّديرِيِّ دُونَ أَنْ يَعْرِفَ أَحَدُهُمَا الْآخَرَ، وَكَانَ الْأَمِيرُ خَالِدٌ يَبْحَثُ مَعَ جُلَسَائِهِ بَيْتًا فِي الْأَدَبِ وَهُوَ ذَوَّاقَةٌ أَدِيبٌ وَامْتَدَّ الْحَدِيثُ إِلَى أَنْ سَأَلُوا الشَّيْخَ لَعَلَّهُ يُشَارِكُهُمْ فَوَجَدُوا بَحْرًا لَا سَاحِلَ لَهُ، وَمِنْ تِلْكَ الْجِلْسَةِ وَذَاكَ الْمَنْزِلِ تَعَدَّلَتِ الْفِكْرَةُ بَلْ كَانَتْ تِلْكَ الْخَيْمَةُ بِدَايَةَ مُنْطَلَقٍ لِفِكْرَةٍ جَدِيدَةٍ، وَأَوْصَاهُ الْأَمِيرُ إِنْ هُوَ قَدِمَ الْمَدِينَةَ أَنْ يَلْتَقِيَ بِالشَّيْخَيْنِ الشَّيْخِ عَبْدِ اللَّهِ الزَّاحِمِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَالشَّيْخِ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ صَالِحٍ حَفِظَهُ اللَّهُ.
وَفِي الْمَدِينَةِ الْتَقَى بِهِمَا رَحِمَهُ اللَّهُ. وَكَانَ صَرِيحًا مَعَهُمَا فِيمَا يَسْمَعُ عَنِ الْبِلَادِ وَكَانَا حَكِيمَيْنِ فِيمَا يَعْرِضَانِ عَلَيْهِ مَا عَلَيْهِ أَهْلُ هَذِهِ الْبِلَادِ مِنْ مَذْهَبٍ فِي الْفِقْهِ وَمَنْهَجٍ فِي الِعَقِيدَةِ.
وَكَانَ أَكْثَرُهُمَا مُبَاحَثَةً مَعَهُ فَضِيلَةُ الشَّيْخِ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ. وَأَخِيرًا قَدَّمَ لِلشَّيْخِ كِتَابَ الْمُغْنِي كَأَصْلٍ لِلْمَذْهَبِ وَبَعْضَ كُتُبِ الشَّيْخِ ابْنِ تَيْمِيَةَ كَمَنْهَجٍ لِلْعَقِيدَةِ، فَقَرَأَهَا الشَّيْخُ وَتَعَدَّدَتِ اللِّقَاءَاتُ وَطَالَتِ الْجِلْسَاتُ فَوَجَدَ الشَّيْخُ مَذْهَبًا مَعْلُومًا لِإِمَامٍ جَلِيلٍ مِنْ أَئِمَّةِ أَهْلِ السُّنَّةِ وَسَلَفِ الْأُمَّةِ أَحْمَدَ بْنِ حَنْبَلٍ رَحِمَهُ اللَّهُ.


الصفحة التالية
Icon