كَمَا وَجَدَ مَنْهَجًا سَلِيمًا لِعَقِيدَةِ السَّلَفِ تَعْتَمِدُ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَمَا كَانَ عَلَيْهِ سَلَفُ الْأُمَّةِ، فَذَهَبَ زَيْفُ الدِّعَايَاتِ الْبَاطِلَةِ وَظَهَرَ مَعْدِنُ الْحَقِيقَةِ الصَّحِيحَةِ، وَتَوَطَّدَتِ الْعَلَاقَةُ بَيْنَ الطَّرَفَيْنِ، وَتَجَدَّدَتْ رَغْبَةٌ مُتَبَادَلَةٌ فِي بَقَائِهِ لِإِفَادَةِ الْمُسْلِمِينَ.
وَرَغِبَ رَحِمَهُ اللَّهُ فِي هَذَا الْجِوَارِ الْكَرِيمِ وَكَانَ يَقُولُ: لَيْسَ مِنْ عَمَلٍ أَعْظَمَ مِنْ تَفْسِيرِ كِتَابِ اللَّهِ فِي مَسْجِدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ. وَتَمَّ ذَلِكَ بِأَمْرٍ مِنْ جَلَالَةِ الْمَلِكِ عَبْدِ الْعَزِيزِ رَحِمَهُ اللَّهُ وَكَانَ الشَّيْخَانِ أَقْرَبَ النَّاسِ إِلَيْهِ وَدَرَسَ الشَّيْخُ عَبْدُ الْعَزِيزِ بْنُ صَالِحٍ الصَّرْفَ وَالْبَيَانَ عَلَيْهِ. رَحِمَ اللَّهُ الْمَوْتَى وَحَفِظَ اللَّهُ الْأَحْيَاءَ.
وَهُنَا كَلِمَةٌ يَجِبُ أَنْ تُقَالَ لِلْحَقِيقَةِ وَلِطَلَبَةِ الْعِلْمِ خَاصَّةً نَضَعُهَا فِي مِيزَانِ الْعَدَالَةِ وَقَانُونِ الْإِنْصَافِ: لَقَدْ كَانَ لِجُلُوسِ الشَّيْخِ رَحِمَهُ اللَّهُ فَائِدَةٌ مُزْدَوِجَةٌ اسْتَفَادَ وَأَفَادَ.
أَمَّا اسْتِفَادَتُهُ فَأَمْرٌ حَتْمِيٌّ وَمَنْطِقُهُ عِلْمِيٌّ لِلْآتِي:
وَهُوَ أَنَّ مَنْهَجَ الدِّرَاسَةِ فِي بِلَادِهِ كَانَ مُنْصَبًّا أَكْثَرَ مَا يَكُونُ عَلَى الْفِقْهِ، وَفِي مَذْهَبِ مَالِكٍ فَقَطْ. وَعَلَى الْعَرَبِيَّةِ مَتْنًا وَأُسْلُوبًا، وَالْأُصُولِ وَالسِّيرَةِ وَالتَّفْسِيرِ. وَتَقَدَّمَ أَنَّهُ رَحِمَهُ اللَّهُ دَرَسَ الْمَنْطِقَ بِالْمُطَالَعَةِ وَلَمْ تَكُنْ دِرَاسَةُ الْحَدِيثِ تَحْظَى بِمَا يَحْظَى بِهِ غَيْرُهَا لِلِاقْتِصَارِ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. وَكَانَ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللَّهُ إِمَامًا فِي كُلِّ مَا تَقَدَّمَ مِمَّا هُوَ شَائِعٌ فِي الْبِلَادِ.
وَلَمَّا عَزَمَ عَلَى الْبَقَاءِ وَبَدَأَ التَّدْرِيسَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ وَخَالَطَ الْعَامَّةَ وَالْخَاصَّةَ وَجَدَ مَنْ يُمَثِّلُ الْمَذَاهِبَ الْأَرْبَعَةَ، وَمَنْ يُنَاقِشُ فِيهَا، وَوَجَدَ فِي الْمَسْجِدِ النَّبَوِيِّ دِرَاسَةً لَا تَقْتَصِرُ عَلَى مَذْهَبِ مَالِكٍ. بَلْ وَلَا عَلَى غَيْرِهِ، فَكَّانِ لَا بُدَّ مِنْ دِرَاسَةِ بَقِيَّةِ الْمَذَاهِبِ بِجَانِبِ مَذْهَبِ مَالِكٍ، وَبِمَا أَنَّ الْخِلَافَ الْمَذْهَبِيَّ لَا يُنْهِيهِ إِلَّا الْحَدِيثُ أَوِ الْقُرْءَانِ، فَكَانَ لِزَامًا مِنَ التَّوَسُّعِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَقَدْ سَاعَدَ الشَّيْخَ عَلَى هَذَا التَّوَسُّعِ وَالِاسْتِيعَابِ وَقُوَّةِ الِاسْتِدْلَالِ وَدِقَّةِ التَّرْجِيحِ مَا هُوَ مُتَمَكِّنٌ فِيهِ مِنْ فَنِّ الْأُصُولِ وَالْعَرَبِيَّةِ، مَعَ تَوَسُّعِهِ فِي دِرَاسَةِ الْحَدِيثِ، وَبِالْأَخَصِّ الْمَجَامِيعُ كَنَيْلِ الْأَوْطَارِ وَفَتْحِ الْبَارِي وَغَيْرِهَا.
وَقَدْ ظَهَرَ ذَلِكَ فِي مَنْهَجِهِ فِي أَضْوَاءِ الْبَيَانِ حِينَمَا يَعْرِضُ لِمَبْحَثٍ فِقْهِيٍّ مُخْتَلَفٍ فِيهِ فَيَسْتَوْفِيَ فِي أَقْوَالِ الْعُلَمَاءِ، وَيُرَجِّحُ مَا يَظْهَرُ لَهُ بِمُقْتَضَى الدَّلِيلِ عَقْلًا كَانَ أَوْ نَقْلًا.
وَهَذَا الْمَنْهَجُ هُوَ سَبِيلُ أَهْلِ التَّحْصِيلِ، الدَّأْبُ عَلَى الدِّرَاسَةِ، وَمُوَاصَلَةُ الْمُطَالَعَةِ وَالتَّنْقِيحِ.


الصفحة التالية
Icon