حكمة نزوله منجَّمًا:
٧- وقد يسأل سائل: لماذا نزل القرآن منجمًا ولم ينزل دفعة واحدة كما نزلت الألواح العشر على موسى -عليه السلام، وكما نزل الزبور على داوود؟ وإن مثل هذا السؤال جاء على ألسنة المشركين معترضين، متخذين منه سبيلًا للجاجتهم، وقد نقل القرآن الكريم عنهم ذلك وردَّه، فقد قال تعالى: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا﴾ [الفرقان: ٣٢].
ونرى أن الن الكريم قد نقل اعتراض المشركين، ورده -سبحانه وتعالى- عليهم، وقد تضمَّن الرد ثلاثة أمور تومئ إلى السبب في نزوله منجمًا:
أولها: تثبيت فؤاد الرسول بموالاة الوحي بالقرآن، فإن موالاته فيها أنس للنبي -صلى الله عليه وسلم، وتثبيت لعزيمته، وتأيد مستمر له، فيقوم بحق الدعوة بالجهاد في سبيلها، وإذا الروح الأمين الذي يجيئه بكلام رب العالمين في موالاة مستمرة.
ثانيها: إن تثبيت الفؤاد بنزول القرآن يكون بحفظ ما ينزل عليه جزءًا جزءًا؛ ذلك أن هذا القرآن نزل ليحفظ في الأجيال كلها جيلًا بعد جيل، وما يحفظ في الصدور لا يعتريه التغيير ولا التبديل، وما يكتب في السطور قد يعتريه المحو والإثبات والتحريف والتصحيف؛ ولأنَّ الله تعالى كتب للقرآن أن يحفظ، كان يحفظ جزءًا جزءًا، وكان ينزل مجزءًا ليسهل ذلك الحفظ، وكان النبي -صلى الله عليه وسلم حريصًا على أن يحفظه عند نزوله، فكان يردد ما يتلوه عليه جبريل، ويتعجَّل حفظه، وقد قال الله -سبحانه وتعالى- لنبيه في ذلك: ﴿لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ، إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ، ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ [القيامة: ١٦-١٩]، ونرى من هذا النص حرص النبي -صلى الله عليه وسلم- على أن يحفظ ما يوحَى إليه، فيحرِّك به لسانه مستعجلًا الحفظ، فينبهه الله تعالى إلى أنه يتولى جمعه وإقراءه له، وأنه مبينه وحافظه، كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: ٩].
الأمر الثالث: هو ترتيل القرآن بتعليم تلاوته، وإنَّ هذا النص يستفاد منه أن تلاوة القرآن وطريقة ترتيله هما من تعليم الله تعالى؛ إذ إنه -سبحانه وتعالى- ينسب الترتيل إليه تعالت قدرته وكلماته، وعظم بيانه. فنحن بقراءتنا وترتيلنا إن أحكمناه، إنما نتبع ما علم الله تعالى نبيه من ترتيل محكم جاء به التنزيل، وأمر به النبي -صلى الله عليه وسلم- في قوله تعالى: ﴿وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا﴾ [المزمل: ٤]، وما كان تعليم هذا الترتيل المنزل من عند الله تعالى ليتوافر إذا لم ينزل القرآن منجمًا، فلما نزل جملة واحدة ما تمكَّن النبي -صلى الله عليه وسلم- من تعلم الترتيل، ولو علمه الله تعالى بغير تنجيمه ما كان في الإمكان أن يعلمه قومه وهم حملته إلى الأجيال من بعده.
هذا ما يستفاد من النص الكريم المتلوّ، وعبارته السامية فيه واضحة بينة تشرق بمعانيه العالية الهادية الموجهة المرشدة.
وهناك سبب آخر لنزول القرآن منجمًا نلمسه من حال العرب ومن شئونهم؛ ذلك أن العرب كانوا أمَّة أمية، والكتابة فيهم ليست رائجة، بل يندر فيهم من يعرفها، وأندر منه من يتقنها، فما كان في استطاعتهم أن يكتبوا القرآن كله إذا نزل جملة واحدة؛ إذ يكون بسوره وآياته عسيرًا عليهم أن يكتبوه، وإن كتبوه لا يعدموا الخطأ والتصحيف والتحريف.
ولقد كان من فائدة إنزال القرآن منجَّمًا أنه كان ينزل لمناسبات ولأحداث، فيكون في هذه الأحداث بعض البيان لأحكامه، والمبيِّن الأول هو النبي -صلى الله عليه وسلم- كما قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ [النحل: ٤٤].