مسعود أنَّ رسول الله -صلى الله تعالى عليه وسلم قال: "إن للقرآن ظاهرًا وباطنًا وحدًّا ومطلعًا" وليس الباطن المذكور في ذلك النص الذي لا يعلمه إلَّا الأئمة كما يدَّعي الشيعة، إنما الباطن هو الإشارات البيانية إلى الحقائق الكونية والنفسية، وغير ذلك من المعاني التي تدركها العقول، ويصل إليها العالم ذو البصيرة المنيرة الذي آتاه الله تعالى نفاذ عقل واستقامة فكر.
٢٥٧- والغزالي يقول: المعنى الذي يؤخذ من ظواهر الألفاظ العربية، ويثبت بعضه من السماع عن النبي -صلى الله تعالى عليه وسلم، والصحابة هو الطريق للمعنى العميق الذي يدركه الناس كلما تقدم العلم، واطَّلعوا على ظواهر الكون وكشفوا من خواصه ما كان مجهولًا، ولا سبيل لمعرفة تلك المعاني العميقة إلَّا بالمعاني الظاهرة المكشوفة.
ويقول الغزالي في ذلك ما نصه: "النقل والسماع لا بُدّ منه في ظاهر التفسير أولًا، ليتقي موضع الغلط، ثم بعد ذلك يتتبع للتفهم والاستنباط، واستخراج الغرائب التي لا تفهم إلَّا بالسماع، ولا مطمَع في الوصول إلى الباطن قبل إمكان الظاهر، ومن ادَّعى فهم أسرار القرآن ولم يحكم التفسير الظاهر، فهو كمن يدعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب، أو يدَّعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم، وهو لا يفهم لغة الترك، فإن ظاهر التفسير يقتضي تعلُّم اللغة التي لا بُدَّ منها للفهم".
والمعنى الباطن الذي يقصده الغزالي هو تحرّي الدقائق التي تكون في مطوى الألفاظ القرآنية، والأسرار التي لا يدركها إلَّا العلماء الراسخون في الإسلام، والعلوم المختلفة، كل بمقدار طاقته العلمية، بعد فهم ظاهر اللفظ وما فيه من مجاز وحذف وإخبار، وعموم وخصوص، وإطلاق وتقييد، وإنَّ ذلك واضح من كلامه وضوحًا بيِّنًا، فهو يقول في معاني القرآني:
"إنما ينكشف للراسخين في العلم من أسراره بقدر غزارة علمهم، وصفاء قلوبهم، وتوافر دواعيهم على التدبر، وتجردهم للطلب، ويكون لكل واحد حدّ في الترقِّي من درجة إلى درجة أعلى منها، فأمَّا الاستيفاء فلا مطمع فيه، ولو كان البحر مدادًا والأشجار أقلامًا، فأسرار كلمة الله -عز وجل- لا نهاية لها، فمن هذا الوجه يتقارب الخلق في الفهم، بعد الاشتراك في معرفة التفسير، وظاهر التفسير لا يغني"١.