ولم يبين البيروني وجه المنع، أهو منع تكليفي يسبقه الإيمان بهذه الكتب، وتكون دلائل وجوب الإيمان من نواحٍ أخرى، أم هو منع تكويني، بمعنى: إنَّ براهما صرفهم بمقتضى التكوين عن أن يأتوا بمثلها، والأخير هو الظاهر؛ لأنه هو الذي يتفق مع قول جمهور علمائهم، وما اشتهروا من أنَّ القول بالصرفة نبع في واديهم.
٣٤- وعندما دخلت الأفكار الهندية في عهد أبي جعفر١ المنصور، من والاه من حكام بني العباس، تلقَّف الذين يحبون كل وافد من الأفكار، ويركنون إلى الاستغراب في أقوالهم، فدفعتهم الفلسفة إلى أن يعتنقوا ذلك القول، ويطبقوه على القرآن، وإن كان لا ينطبق، فقال قائلهم: إن العرب إذ عجزوا عن أن يأتوا بمثل القرآن ما كان عجزهم لأمر ذاتي من ألفاظه ومعانيه ونسجه ونظمه، بل كان لأن الله تعالى صرفهم عن أن يأتوا بمثله.
وإنَّ رواج تلك الفكرة يؤدي إلى أمرين:
أولهما: إنَّ القرآن الكريم ليس في درجة من البلاغة والفصاحة تمنع محاكاته، وتعجز القدرة البشرية عن أن تأتي بمثله، فالعجز ليس من صفات القرآن الذاتية.
وثانيهما: الحكم بأنه ككلام الناس لا يزيد عليه شيء في بلاغته، أو في معانيه.
وإن مذهب الصرفة قد وجد من يقوله من علماء الفلسفة الكلامية وغيرها، بل وجد من يقوله من بين الذين أنكروا الرأي في الفقه، وهو مع جموده في الفقه، من أبلغ الكتاب والشعراء.
ولنترك الكلمة للباقلاني المتوفَّى سنة ٤٠٣هـ في كتابه "إعجاز القرآن"، قال -رضى الله تبارك وتعالى عنه:
"فإن قيل: فلم زعمتم أنّ البلغاء عاجزون عن الإتيان بمثله مع قدرتهم على صنوف البلاغات وتصرُّفهم في أجناس الفصاحات، وهلَّا قلتم: إنَّ من قدر على جميع هذه الوجوه بوجه من هذه الطرق الغريبة كان على مثل نظم القرآن قادرًا، وإنما يصرفه عنه ضرب من الصرف، أو يمنعه من الإتيان بمثله ضرب من المنع، أو تقصر دواعيه إليه دونه مع قدرته عليه ليتكامل ما أراده الله تعالى من الدلالة، ويحصل ما قصده من إيجاب الحجة؛ لأن من قدر على نظم كلمتين بديعتين لم يعجز عن نظم مثلهما، وإذا قدر على ذلك على ضمّ الثانية إلى الأولى، وكذلك الثالثة حتى يتكامل قدر الآية والسورة"٢.

١ ثاني خلفاء بني العباس، توفِّي سنة ١٥٦هـ.
٢ إعجاز القرآن للباقلاني ص٤١ "طبع دار المعارف".


الصفحة التالية
Icon