عَلَى أَقْوَالِهِمْ، وَمُبْطِلًا لَهَا. وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ هَمَّ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ ثُمَّ خَرَجَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَمْ يُرِدْ قَطُّ تَرْكَ شَيْءٍ مِمَّا أُوحِيَ إِلَيْهِ، وَلَا ضَاقَ صَدْرُهُ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ يَضِيقُ صَدْرُهُ بِأَقْوَالِهِمْ وَأَفْعَالِهِمْ وَبُعْدِهِمْ عَنِ الْإِيمَانِ. وَلَعَلَّكَ هَاهُنَا بِمَعْنَى التَّوْقِيفِ وَالتَّقْرِيرِ، وَمَا يُوحَى إِلَيْهِ هُوَ الْقُرْآنُ والشريعة وَالدُّعَاءُ إِلَى اللَّهِ كَانَ فِي ذَلِكَ سَبُّ آلِهَتِهِمْ، وَتَسْفِيهُ آبَائِهِمْ أَوْ غَيْرَهُ. وَيُحْتَمَلُ أَنْ يَكُونَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ عَظُمَ عَلَيْهِ مَا يَلْقَى مِنَ الشِّدَّةِ، فَمَالَ إِلَى أَنْ يَكُونَ مِنَ اللَّهِ إِذْنٌ فِي مُسَاهَلَةِ الْكُفَّارِ بَعْضَ الْمُسَاهَلَةِ، وَنَحْوَ هَذَا مِنَ الِاعْتِقَادَاتِ الَّتِي تَلِيقُ بِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا جَاءَتْ آيات الموادعة. وعبر بضائق دُونَ ضَيِّقٍ لِلْمُنَاسَبَةِ فِي اللَّفْظِ مَعَ تَارِكٌ، وَإِنْ كَانَ ضَيِّقٌ أَكْثَرَ اسْتِعْمَالًا، لِأَنَّهُ وَصْفٌ لَازِمٌ، وَضَائِقٌ وَصْفٌ عَارِضٌ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: (فَإِنْ قُلْتَ) :
لِمَ عَدَلَ عَنْ ضِيقٍ إِلَى ضَائِقٍ؟ (قُلْتُ) : لِيَدُلَّ عَلَى أَنَّ ضَيِّقٌ عَارِضٌ غَيْرُ ثَابِتٍ، لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ أَفْسَحَ النَّاسِ صَدْرًا. وَمِثْلُهُ قَوْلُكَ: سَيِّدٌ وَجَوَادٌ، تُرِيدُ السِّيَادَةَ وَالْجُودَ الثَّابِتَيْنِ الْمُسْتَقِرَّيْنِ، فَإِذَا أَرَدْتَ الْحُدُوثَ قُلْتَ: سَائِدٌ وَجَائِدٌ انْتَهَى. وَلَيْسَ هَذَا الْحُكْمُ مُخْتَصًّا بِهَذِهِ الْأَلْفَاظِ، بَلْ كُلُّ مَا يُبْنَى مِنَ الثُّلَاثِيِّ لِلثُّبُوتِ وَالِاسْتِقْرَارِ عَلَى غَيْرِ وَزْنِ فَاعِلٍ رُدَّ إِلَيْهِ إِذَا أُرِيدَ مَعْنَى الْحُدُوثِ، فَنَقُولُ: حَاسِنٌ مِنْ حَسُنَ، وَثَاقِلٌ مِنْ ثَقُلَ، وَفَارِحٌ مِنْ فَرِحَ، وَسَامِنٌ مِنْ سَمِنَ، وَقَالَ بَعْضُ اللُّصُوصِ يَصِفُ السِّجْنَ وَمَنْ سُجِنَ فِيهِ:

بِمَنْزِلَةٍ أَمَّا اللَّئِيمُ فَسَامِنٌ بِهَا وَكِرَامُ النَّاسِ بَادٍ شُحُوبُهَا
وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي بِهِ عَلَى بَعْضٍ. وَقِيلَ: عَلَى مَا، وَقِيلَ: عَلَى التَّبْلِيغِ، وَقِيلَ: عَلَى التَّكْذِيبِ، قِيلَ وَلَعَلَّ هُنَا لِلِاسْتِفْهَامِ بِمَعْنَى هَلْ، وَالْمَعْنَى: هَلْ أَنْتَ تَارِكٌ مَا فِيهِ تَسْفِيهُ أَحْلَامِهِمْ وَسَبُّ آلِهَتِهِمْ كَمَا سَأَلُوكَ؟ وَقَدَّرُوا كَرَاهَتَهُ أَنْ يَقُولُوا، وَلِئَلَّا يَقُولُوا، وَبِأَنْ يَقُولُوا، ثَلَاثَةَ أَقْوَالٍ. وَالْكَنْزُ الْمَالُ الْكَثِيرُ. وَقَالُوا: أُنْزِلَ، وَلَمْ يَقُولُوا أُعْطِيَ، لِأَنَّ مُرَادَهُمُ التَّعْجِيزُ، وَأَنَّهُمُ الْتَمَسُوا أَنْ يُنْزَلَ عَلَيْهِ مِنَ السَّمَاءِ كَنْزٌ عَلَى خِلَافِ الْعَادَةِ، فَإِنَّ الْكُنُوزَ إِنَّمَا تَكُونُ فِي الْأَرْضِ. وَطَلَبُهُمْ آيَةً تَضْطَرُّ إِلَى الْإِيمَانِ، وَاللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لَمْ يَبْعَثِ الْأَنْبِيَاءَ بِآيَاتِ اضْطِرَارٍ، إِنَّمَا بَعَثَهُمْ بِآيَاتِ النَّظَرِ وَالِاسْتِدْلَالِ، وَلَمْ يَجْعَلْ آيَةَ الِاضْطِرَارِ إِلَّا لِلْأُمَّةِ الَّتِي أَرَادَ تَعْذِيبَهَا لِكُفْرِهَا بَعْدَ آيَةِ الِاسْتِدْلَالِ، كَالنَّاقَةِ لِثَمُودَ. وَآنَسَهُ تَعَالَى بِقَوْلِهِ: إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ، أَيِ: الَّذِي فُوِّضَ إِلَيْكَ هُوَ النِّذَارَةُ لَا تَحْصِيلُ هِدَايَتِهِمْ، فَإِنَّ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ لِلَّهِ تَعَالَى. وَقَالَ مُقَاتِلٌ:
وَقِيلَ: كَافِلٌ بِالْمَصَالِحِ قَادِرٌ عَلَيْهَا. وَقَالَ ابْنُ عَطِيَّةَ: الْمُحْصِي لِإِيمَانِ مَنْ شَاءَ، وَكُفْرِ مَنْ شَاءَ. قِيلَ: وَهَذِهِ الْآيَةُ مَنْسُوخَةٌ، وَقِيلَ: مَحْكَمَةٌ.


الصفحة التالية
Icon