هُوَ عَائِدٌ عَلَيْهِمْ، وَالنَّهْيُ عَنِ الْقُنُوطِ يَقْتَضِي الْأَمْرَ بِالرَّجَاءِ، وَإِضَافَةُ الرَّحْمَةِ إِلَى اللَّهِ الْتِفَاتٌ مِنْ ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ إِلَى الِاسْمِ الْغَائِبِ، لِأَنَّ فِي إِضَافَتِهَا إِلَيْهِ سِعَةً لِلرَّحْمَةِ إِذَا أُضِيفَتْ إِلَى اللَّهِ الَّذِي هُوَ أَعْظَمُ الْأَسْمَاءِ، لِأَنَّهُ الْعِلْمُ الْمُحْتَوِي عَلَى مَعَانِي جَمِيعِ الْأَسْمَاءِ. ثُمَّ أَعَادَ الِاسْمَ الْأَعْظَمَ، وَأَكَّدَ الْجُمْلَةَ بِأَنَّ مُبَالَغَةً فِي الْوَعْدِ بِالْغُفْرَانِ، ثُمَّ وَصَفَ نَفْسَهُ بِمَا سَبَقَ فِي الْجُمْلَتَيْنِ مِنَ الرَّحْمَةِ وَالْغُفْرَانِ بِصِفَتَيِ الْمُبَالَغَةِ، وَأَكَّدَ بِلَفْظٍ هُوَ الْمُقْتَضِي عِنْدَ بَعْضِهِمُ الْحَصْرَ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً، شَرْطَ التَّوْبَةِ. وَقَدْ تَكَرَّرَ ذِكْرُ هَذَا الشَّرْطِ فِي الْقُرْآنِ، فَكَانَ ذِكْرُهُ فِيمَا ذُكِرَ فِيهِ ذِكْرًا لَهُ فِيمَا لَمْ يُذْكَرْ فِيهِ، لِأَنَّ الْقُرْآنَ فِي حُكْمِ كَلَامٍ وَاحِدٍ، وَلَا يَجُوزُ فِيهِ التَّنَاقُضُ. انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الْمُعْتَزِلَةِ فِي أَنَّ الْمُؤْمِنَ الْعَاصِيَ لَا يُغْفَرُ لَهُ إِلَّا بِشَرْطِ التَّوْبَةِ.
وَلَمَّا كَانَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِيهَا فُسْحَةٌ عَظِيمَةٌ لِلْمُسْرِفِ، أَتْبَعَهَا بِأَنَّ الْإِنَابَةَ، وَهِيَ الرُّجُوعُ، مَطْلُوبَةٌ مَأْمُورٌ بِهَا. ثُمَّ تَوَعَّدَ مَنْ لَمْ يَتُبْ بِالْعَذَابِ، حَتَّى لَا يَبْقَى الْمَرْءُ كَالْمُمِلِّ مِنَ الطَّاعَةِ وَالْمُتَّكِلِ عَلَى الْغُفْرَانِ دُونَ إِنَابَةٍ. وَقَالَ الزَّمَخْشَرِيُّ: وَإِنَّمَا ذَكَرَ الْإِنَابَةَ عَلَى إِثْرِ الْمَغْفِرَةِ، لِئَلَّا يَطْمَعَ طَامِعٌ فِي حُصُولِهَا بِغَيْرِ تَوْبَةٍ، وَلِلدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّهَا شَرْطٌ فِيهَا لَازِمٌ لَا تَحْصُلُ بِدُونِهِ.
انْتَهَى، وَهُوَ عَلَى طَرِيقَةِ الِاعْتِزَالِ. وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ، مِثْلُ قَوْلِهِ:
الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، وَهُوَ الْقُرْآنُ، وَلَيْسَ الْمَعْنَى أَنَّ بَعْضًا أَحْسَنُ مِنْ بَعْضٍ، بَلْ كُلُّهُ حَسَنٌ. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً، أَيْ فَجْأَةً، وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ: أَيْ وَأَنْتُمْ غَافِلُونَ عَنْ حُلُولِهِ بِكُمْ، فَيَكُونُ ذَلِكَ أَشَدَّ فِي عَذَابِكُمْ.
أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتى عَلى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ، أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ، أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ، بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ، وَيَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ، وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ.
رُوِيَ أَنَّهُ كَانَ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ عَالِمٌ تَرَكَ عِلْمَهُ وَفَسَقَ، أَتَاهُ إِبْلِيسُ فَقَالَ لَهُ: تَمَتَّعْ مِنَ الدُّنْيَا ثُمَّ تُبْ، فَأَطَاعَهُ وَأَنْفَقَ مَالَهُ فِي الْفُجُورِ. فَأَتَاهُ مَلَكُ الْمَوْتِ فِي أَلَذِّ مَا كَانَ، فَقَالَ:


الصفحة التالية
Icon