إني قد حميت دينك أول النهار، فاحم جسدي في آخره. وكانوا يجردون من قتل أصحابه، فلما قتلوا عاصماً، حمته الدبر وهي الذنابير، حتى جاء السيل من الليل، فذهب به الدبر.
وأسروا خبيب بن عدي ورجل آخر اسمه زيد بن الديشة، فأما خبيب فذهبوا به إلى مكة، فاشترته امرأة ومعها أناس من قريش- قتل لهم قتيل يوم بدر- فلما جيء بخبيب أتي به في الشهر الحرام، فحبس حتى انسلخ الشهر الحرام ثم خرجوا به من الحرم ليصلبوه، فقال لهم: اتركوني أصلي ركعتين، فصلاهما. ثم قال: لولا خشيت أن يقولوا جزع من الموت، لازددت. فقال: اللهم ليس هاهنا أحد أن يبلغ عني رسولك السلام، فبلغ أنت عني السلام.
ثم التفت إلى وجوههم، وقال: اللهم أحصهم عدداً وأهلكهم بدناً يعني: متفرقين، ولا تبقي منهم أحداً. ثم صلبوه. وأما صاحبه، الذي أسر معه، اشتراه صفوان بن أمية.
وأما البعث الثاني، فإنه بعث محمد بن سلمة مع أصحابه، فقتل أصحابه عن نحو طريق العراق، وارتث هو من وسط القتلى فنجا.
وأما البعث الثالث، فإن عمرو بن مالك كتب إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم: أن ابعث إليَّ رجالاً يعلموننا القرآن، ويفقهوننا في الدين، فهم في ذمتي وجواري. فبعث النبيّ صلّى الله عليه وسلم المنذر بن عمرو الساعدي في أربعة عشر من المهاجرين والأنصار، فساروا نحو بئر معونة. فلما ساروا ليلة من المدينة، بلغهم أن عمرو بن مالك مات، فكتب المنذر بن عمرو إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم يستمده، فأمده صلّى الله عليه وسلم بأربعة نفر منهم عمرو بن أمية الضمري، والحارث بن الصمة، وسعد بن أبي وقاص، ورجل آخر فساروا حتى بلغوا بئر معونة، وكتبوا إلى ربيعة بن عامر بن مالك:
نحن في ذمتك وذمة أبيك، أفنقدم إليك أم لا؟ فقال: أنتم في ذمتي وجواري فأقدموا.
فخرج إليهم عامر بن الطفيل، واستعان برعل وذكوان وعصية فخرجوا إلى المسلمين.
فقاتلوهم، فقتلوا كلهم إلا عمرو بن أمية الضمري، والحارث بن الصمة، وسعد بن أبي وقاص، كانوا تخلفوا. فنزلوا تحت شجرة إذ وقع على الشجرة طير، فرمى عليهم بعلقة دم، فعرفوا أن الطير قد شرب الدم، فقال بعضهم لبعض: قد قتل أصحابنا. فصعدوا أعلى الجبل، فنظروا فإذا القوم صرعى، وقد اعتكفت عليهم الطير، فقال الحارث بن الصمة: أنا لا أنتهي حتى أبلغ مصارع أصحابي.
فخرج إليهم فقاتل القوم، فقتل منهم رجلين. ثم أخذوه فقالوا له: ما تحب أن نصنع بك؟ فقال لهم: ابلغوا بي مصارع قومي. فلما بلغ مصارع أصحابه، أرسلوه فقاتلهم، فقتل منهم اثنين. ثم قتل فرجع عمرو بن أمية الضمري، ورجع معه الرجلان الآخران إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فخرج رجلان من عند رسول الله صلّى الله عليه وسلم مستأمنين، قد كساهما وحملهما رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فقال: من أنتما؟ قال: كلابيان. فقتلهما عمرو بن أمية الضمري، وأخذ سلبهما، ودخل على رسول الله صلّى الله عليه وسلم وأخبره الخبر، فقال: بئس ما صنعت حين قتلتهما.