إلّا الفاسقين وإنه يهدي إليه من أناب وما في باب ذلك فينبغي حمل هذه الأحاديث وأمثالها على سبق علم الله تعالى بما سوف يختار عباده من طرق الهداية والضلال.
وهذا الموضوع متصل من ناحية ما بموضوع القدر وسيأتي تعليق مسهب عليه في مناسبة آتية أيضا، وما تقدم هو من ناحية العبارة بالذات. أما من ناحية جعلها موضوع تشاد كلامي فنقول أولا: إن الآية كما قلنا قبل قد عنت سامعي القرآن الأولين بقصد التنويه بالمؤمنين منهم وإنذارا للكفار ومرضى القلوب وتثبت النبي صلّى الله عليه وسلّم وإن الأولى أن تؤخذ على هذا الاعتبار ويوقف عنده. ومع ذلك فإن المدقق في الآيات وما يماثلها يجدها تهدف بصورة عامة إلى غير ذلك من حيث إنها تهدف إلى التدعيم والتثبيت والوصف والتقريب والتسلية على ما سوف ننبه إليه في المناسبات الآتية ويجد أن التشاد حولها لا محل له. ولا يتسق مع أهداف القرآن وحكمة إرسال الرسل وإنذار الناس وتبشيرهم، وإن الحق يوجب ألا يخرج القرآن عن نطاقه من التبشير والموعظة والدعوة إلى نطاق الجدل والنقاش ولا سيما فيما يتعارض مع تلك الأهداف والحكمة.
هذا، ولقد رأينا عبد الحميد الخطيب المكي يؤول في تفسيره «تفسير الخطيب» الذي نشره حديثا جملة: يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشاءُ بنسبة المشيئة إلى الإنسان أي إن الله يضل من يشاء لنفسه الضلالة بالكفر والإثم ويهدي من يشاء الهدى لنفسه بالإيمان والعمل الصالح. وقد هدف بتأويله إلى تثبيت قابلية المشيئة والاختيار للإنسان وتنزيه الله عن إضلال الناس وهدايتهم بدون أن يكون في ذلك أثر لكسبهم واختيارهم وأخلاقهم. ومع أن وجهة نظره تلتقي مع وجهة نظرنا التي شرحناها فإننا نرى في تأويله تكلفا وغرابة على غير ضرورة. ولا سيما وهناك آيات تنسب الهدى والضلال إلى الله وليس فيها جملة «من يشاء» مثل آية البقرة [٢٦] التي أوردناها آنفا ومثل آية سورة الأعراف هذه: مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (١٧٨)، ومثل آية سورة الشورى هذه: وَما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (٤٦).