وهناك حديث رواه الشيخان والنسائي عن أبي ذر قال: «سألت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم عن أول مسجد وضع في الأرض، قال المسجد الحرام، قلت ثم أيّ قال المسجد الأقصى، قلت كم بينهما؟ قال أربعون عاما. ثم الأرض لك مسجد فحيثما أدركتك الصلاة فصلّ» «١». والمسجد الأقصى تسمية إسلامية والمراد بها لغة المسجد البعيد جدا. والمتفق عليه أن المقصد منها مسجد بيت المقدس، وقد قام على أنقاض معبد اليهود القديم الذي دمره الرومان في القرن الأول بعد الميلاد «٢». ولم يكن مسجد قائم في مكانه حينما نزل القرآن فتكون التسمية على اعتبار ما كان قبل وبعد. والمعروف المتداول أن الذي أنشأ ذلك المعبد هو سليمان بن داود عليهما السلام «٣» الذي عاش على وجه التخمين القريب في القرن العاشر قبل الميلاد أي بعد الزمن الذي يخمن أن إبراهيم عاش فيه بألف عام. وهذا يثير إشكالا بالنسبة للحديث كما هو المتبادر. ويزداد هذا الإشكال بحديث رواه النسائي عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلّى الله عليه وسلّم قال: «إن سليمان بن داود عليهما السلام لمّا بنى بيت المقدس سأل الله عزّ وجلّ خلالا ثلاثة حكما يصادف حكمه فأوتيه. وملكا لا ينبغي لأحد من بعده فأوتيه وسأل الله تعالى حين فرغ من بنائه ألا يأتيه أحد لا ينهزه إلا الصلاة فيه أن يخرجه من خطيئته كيوم ولدته أمّه» «٤» حيث ينطوي في الحديث خبر نبوي بأن الذي بنى المسجد هو سليمان عليه السلام لأن الفقرة الثالثة قوية الدلالة على أن المراد بها هو المسجد.
ولقد حاول ابن القيم في كتابه زاد المعاد أن يحلّ الإشكال فقال إن المستشكلين لا يعرفون أن سليمان ليس هو الباني الأول للمسجد وإنما هو مجدد له وأن الباني الأول هو يعقوب حفيد إبراهيم عليهما السلام وتكون المسافة بين
(٢) انظر كتابنا الجزء الرابع من تاريخ الجنس العربي ص ٢٤١ وما بعدها.
(٣) انظر الإصلاحات ٢ و ٣ و ٤ و ٥ و ٧ و ٨ و ٩ من سفر الملوك الثالث في الطبعة الكاثوليكية والأول في الطبعة البروتستانتية.
(٤) التاج ج ١ ص ٢١٠.