المادة عادة، فائقة القدرة متسلطة على البشر تثير فيهم الخوف والفزع، وتؤثر في أفكارهم وتوجههم توجيها ضارّا فاسدا باستثناء بعضهم الذين كانوا يؤمنون بالله ويخشونه.
وهذه الصورة تتفق في بعض الخطوط مع الصورة القرآنية للملائكة وتختلف عنها في بعض، فهم سواء في الخفاء وعدم المادية والقدرة الفائقة. مفترقون من حيث كون الجن ناريين ومبعث خوف وقلق ومصدر شر وأذى، ومن حيث كون غالبيتهم موضع سخط الله ونقمته لشرورهم وتمردهم على الله، ومن حيث كون اتصالهم وتعاونهم مع ذوي النيات السيئة والأفكار الخبيثة والأخلاق المنحرفة، في حين أن الملائكة مبعث طمأنينة وسكينة ومصدر أمن وخير وعون ورجاء ومختصون من الله مكرمون لديه، يقومون بخدمته ويسبحون باسمه ويخضعون لأمره ويخشونه، وفي حين أن اتصالهم مع الأنبياء والرسل الذين لهم الكرامة عند الله.
وكما قلنا بالنسبة للملائكة نقول بالنسبة للجن إن وجودهم في نطاق قدرة الله وإن لم تدرك عقول الناس مداه. وإن التصديق به واجب إيماني غيبي لأن نصوص القرآن قطعية في ذلك.
وذكر الجن بالأساليب المتنوعة التي ذكروا بها في القرآن ماهية وعقائد وصورا لم يرد في كتب اليهود والنصارى المنسوبة إلى الوحي الرباني كما هو شأن الملائكة، ولذلك فإن هذا الأسلوب من خصوصيات القرآن أيضا.
ولعل ما كان من عقائد العرب في الجن وما كان من صور في أذهانهم لهم هو من حكمة هذه الخصوصية كما هو الشأن بالنسبة للملائكة أيضا. وعلى كل حال فإن مما هو جدير بالتنبيه أن القرآن وهو يذكر الجن بما يذكر ويتحدث عنهم بما يتحدث إنما يذكر ويتحدث عن مخلوقات وكائنات يعتقد العرب بها ويعترفون بوجودها بما يقارب ما جاء فيه. وهذه مسألة مهمة في صدد كل ما جاء عن الجن، لأن الكلام عما هو معروف ومعترف به هو أقوى أثرا ونفوذا كما لا يخفى.
الجزء الثاني من التفسير الحديث ٥