هذا، ومما يتبادر من روح الآيات التي نحن في صددها أن حكاية موقف النفر الذي استمع القرآن وأقواله ليست مقصودة لذات قصتها وإنما قصدت في الدرجة الأولى إلى الموعظة والحكمة والتأثير على سامعي القرآن.
فسامعو القرآن وهم العرب في الدرجة الأولى والمباشرة كانوا يعتقدون بوجود الجن وقوتهم وتأثيرهم وصعودهم إلى السماء واستراقهم السمع منها واتصالهم بالكهّان والسحرة والشعراء اتصال تلقين وإلهام وتعليم وإخبار.
وكانوا يخشون شرهم ويدافعون عن هذا الشر بالاستعاذة بهم وإشراكهم مع الله في التذلّل والتقرّب- وهذا مما أخبر به القرآن كما جاء في آية سورة سبأ هذه:
قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (٤١) - فاقتضت حكمة التنزيل حكاية هذا الحادث الغيبي ليرى الكفار من السامعين أن من هؤلاء الذين يتصورونهم أقوياء بطاشين جريئين على السماء والذين يتخذونهم معبودات ويتقرّبون إليهم بالعبادة والاستعاذة من رأى أعلام النبوّة المحمدية وآمن بها حينما استمع إلى القرآن الذي يتلوه النبي ﷺ واعترف بما فيه من هدى ورشد وإدراك ما كانوا عليه من سخف وضلال في إنكار البعث ونسبة الولد والزوجة إلى الله، وأمل الإفلات من حسابه وعقابه وسنّة المشتطين المنحرفين. ومما يجعل هذا التوجيه قويّا ما جاء في آخر آية من السورة السابقة من تقرير كون الذين عند الله- وهم الملائكة على ما شرحناه في مناسبتها- لا يستكبرون عن عبادته ويسبّحونه ويسجدون له. فللملائكة في أذهان العرب صورة قوية كما كان للجنّ على ما شرحناه في سياق تفسير سورة المدثّر، وكلاهما شغلا حيزا كبيرا في أفكارهم وعقائدهم وتقاليدهم فذكر الملائكة بما ذكروا به في آخر السورة السابقة وذكر نفر الجنّ بما ذكروا به في السورة التي تلتها لهما معناهما من الترابط والتساوق في الإشارات والمقاصد القرآنية في صدد موقف هذين الخلقين الغيبيين العظيمين من الله والإخلاص له، وفي دعوة العرب الذين لهما في أذهانهم ما لهما إلى الاقتداء والتأسي بهما. وهذا التساوق بين آخر