وَمَا يَتْبَعُهَا مِنَ الرُّطُوبَاتِ، فَلَا تَحِلُّ قِيَاسًا عَلَى الْمِيتَةِ.
الْمَسْلَكُ الْآخَرُ- أَنَّ آيَةَ التَّحْرِيمِ، أَعْنِي قَوْلَهُ: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ إِلَى آخِرِهَا، مَحْكَمَةٌ لَمْ يَدْخُلْهَا نَسْخٌ وَلَا تَخْصِيصٌ وَكَذَا يَنْبَغِي أَنْ تَكُونَ آيَةُ التَّحْلِيلِ مُحْكَمَةٌ، أَعْنِي قوله تعالى:
يَسْئَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ [المائدة: ٤]، فينبغي أن لا يَكُونَ بَيْنَهُمَا تَعَارُضٌ أَصْلًا، وَتَكُونُ السُّنَّةُ جَاءَتْ لِبَيَانِ ذَلِكَ، وَشَاهِدُ ذَلِكَ قِصَّةُ السَّهْمِ، فَإِنَّهُ ذَكَرَ حُكْمَ مَا دَخَلَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وهو ما إذا خزقه «١» المزراق فَيَكُونُ حَلَالًا، لِأَنَّهُ مِنَ الطَّيِّبَاتِ، وَمَا دَخَلَ فِي حُكْمِ تِلْكَ الْآيَةِ، آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَهُوَ مَا إِذَا أَصَابَهُ بِعَرْضٍ فَلَا يُؤْكَلُ، لِأَنَّهُ وَقِيذٌ، فَيَكُونُ أَحَدَ أَفْرَادِ آيَةِ التَّحْرِيمِ، وَهَكَذَا يَجِبُ أَنَّ يَكُونَ حُكْمُ هَذَا سَوَاءً إِنْ كَانَ قَدْ جَرَحَهُ الْكَلْبُ، فَهُوَ دَاخِلٌ فِي حُكْمِ آيَةِ التَّحْلِيلِ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ بَلْ صَدَمَهُ أَوْ قَتَلَهُ بِثِقَلِهِ، فَهُوَ نَطِيحٌ أَوْ فِي حُكْمِهِ، فَلَا يَكُونُ حَلَالًا.
فَإِنْ قِيلَ: فَلِمَ لَا فَصَّلَ فِي حُكْمِ الْكَلْبِ، فَقَالَ: مَا ذَكَرْتُمْ إِنْ جَرَحَهُ فَهُوَ حَلَالٌ، وَإِنْ لَمْ يَجْرَحْهُ فَهُوَ حَرَامٌ. فَالْجَوَابُ أَنَّ ذَلِكَ نَادِرٌ، لِأَنَّ مِنْ شَأْنِ الْكَلْبِ أَنْ يَقْتُلَ بِظُفُرِهِ أَوْ نَابِهِ أَوْ بِهِمَا مَعًا، وَأَمَّا اصْطِدَامُهُ هُوَ وَالصَّيْدُ فَنَادِرٌ، وَكَذَا قَتْلُهُ إِيَّاهُ بِثِقْلِهِ، فَلَمْ يُحْتَجَّ إِلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ ذَلِكَ لِنُدُورِهِ أَوْ لِظُهُورِ حُكْمِهِ عِنْدَ مَنْ عَلِمَ تَحْرِيمَ الْمَيْتَةِ وَالْمُنْخَنِقَةِ وَالْمَوْقُوذَةِ وَالْمُتَرَدِّيَةِ وَالنَّطِيحَةِ.
وَأَمَّا السَّهْمُ وَالْمِعْرَاضُ فَتَارَةً يُخْطِئُ لِسُوءِ رَمْيِ رَامِيهِ، أو للهو أو لنحو ذَلِكَ، بَلْ خَطَؤُهُ أَكْثَرُ مِنْ إِصَابَتِهِ، فَلِهَذَا ذَكَرَ كُلًّا مِنْ حُكْمَيْهِ مُفَصِّلًا، وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلِهَذَا لَمَّا كَانَ الْكَلْبُ مِنْ شَأْنِهِ أَنَّهُ قَدْ يَأْكُلُ مِنَ الصَّيْدِ ذَكَرَ حُكْمَ مَا إِذَا أَكَلَ مِنَ الصَّيْدِ فَقَالَ «إِنْ أَكَلَ فَلَا تَأْكُلْ، فَإِنِّي أَخَافُ أَنْ يَكُونَ أَمْسَكَ عَلَى نَفْسِهِ» وَهَذَا صَحِيحٌ ثَابِتٌ فِي الصَّحِيحَيْنِ «٢»
، وَهُوَ أَيْضًا مَخْصُوصٌ مِنْ عُمُومِ آيَةِ التَّحْلِيلِ عِنْدَ كَثِيرِينَ، فَقَالُوا: لَا يَحِلُّ مَا أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، حُكِيَ ذَلِكَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَبِهِ قَالَ الْحَسَنُ وَالشَّعْبِيُّ وَالنَّخَعِيُّ، وَإِلَيْهِ ذَهَبَ أَبُو حَنِيفَةَ وَصَاحِبَاهُ، وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ وَالشَّافِعِيُّ فِي الْمَشْهُورِ عَنْهُ، وَرَوَى ابْنُ جرير في تفسيره عن علي وسعيد وَسَلْمَانَ وَأَبِي هُرَيْرَةَ وَابْنِ عُمَرَ وَابْنِ عَبَّاسٍ: أَنَّ الصَّيْدَ يُؤْكَلُ وَإِنْ أَكَلَ مِنْهُ الْكَلْبُ، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وَغَيْرُهُمْ: يُؤْكَلُ وَلَوْ لَمْ يَبْقَ مِنْهُ إِلَّا بِضْعَةٌ، وَإِلَى ذَلِكَ ذَهَبَ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ فِي قَوْلِهِ الْقَدِيمِ، وَأَوْمَأَ فِي الْجَدِيدِ إِلَى قَوْلَيْنِ، قال ذلك الإمام أبو نصر بن الصَّبَّاغِ وَغَيْرُهُ مِنَ الْأَصْحَابِ عَنْهُ.
وَقَدْ رَوَى أَبُو دَاوُدَ «٣» بِإِسْنَادٍ جَيِّدٍ قَوِيٍّ عَنْ أَبِي ثَعْلَبَةَ الْخُشَنِيِّ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال في

(١) في بعض النسخ: «إذا خزقه المعراض». وقد تقدم أن المزراق هو الرمح القصير. والمعراض خشبة ثقيلة أو عصا في طرفيها حديدة. وقد تكون بغير حديدة. والمراد بقوله: «خزقه» : إذا نفذ فيه. [.....]
(٢) صحيح البخاري (ذبائح باب ٨) وصحيح مسلم (صيد حديث ٣).
(٣) سنن أبي داود (صيد باب ٢٢).


الصفحة التالية
Icon